كثيرون منّا لا يستسيغون إنتاجات الجمعيّات، لكنّ الأمر اختلف كثيراً عندما التقت جمعيّة “مسار” المعنية بالعمل الشبابي التنموي، مع الفنان عصام بوخالد، وقد كلّفته بإخراج فكرة عمل مسرحي مع مجموعة من الشباب/الشابّات في مسرح دوار الشمس-بيروت.
قد يَسهُل الطعن في شهادتي لو أردتُ الحديث عن عصام بوخالد، فمعرفتي به تعود إلى منتصف الثمانينيّات، حينما اجتمعنا في منظّمة شبابيّة (يساريّة)، وقد اشتهر عصام بموهبة التمثيل خلال الأنشطة الصيّفية التي كانت تُقام حينها. وقيل أنّ والديه أرسلاه ألى الإتّحاد السوفياتي لدراسة الطب وتأمين مُستقبلهِ، فلم يُكمل العام الدراسي وعاد لألتقي به في معهد الفنون الجميلة.
وعلى الرغم من اعتيادي على إبداعات عصام، إلاّ أنّه فاجأني، في عمله الجديد، بمسرحة نقاش الشارع اللبناني اليومي. ولفتتني بقوّة، اللغة المتدوالة بين العاملين مع الجمعيات الأهليّة،
فقد تحوّلوا إلى طبقة اجتماعيّة تكرّست تحديدًا بعد حرب 2006، حيثُ لبنان-الدولة الغائبة، أبوابُه مُشرّعة لمنظّمات دوليّة تحمل “أجندات” دولها.. البريئة! والطبقة المقصودة وصمت كلّ من يعمل “بجدٍّ” لأهداف تربوية ومجتمعيّة مع الجمعيات. في نظر الجميع إن طبقة الـNGO هي انعكاس لأحزاب شريكة في السلطة ودمّرت هويّة لبنان. وقد كان ذلك بسبب البطالة المُقنّعة، فالشباب اللبناني الذ يحملُ شهادات جامعيّة (مع وقف التنفيذ) لم يجد حلاًّ سوى “انتحال” وظيفة مدير مشروع من المفترض أن يكون تنموياً، مع ثياب أنيقة وحذاء يلمع، وموبايل لائق بمركزه، وسيّارة بلوحة سياحيّة ولا ينسى لصق لوغو الجمعيّة الدوليّة على سيّارته لتسهيل المرور أينما أراد. شخصيّتان كانتا أشبه بالراوي في أي عمل مسرحي، برعا في تقديم الشخصيّات المُركّبة للمجتمع اللبناني، مع ما تحمله كل شخصيّة من أحلام لم تتحقّق. فمنهم من ما زال يصبو إلى تحقيقها وهو مُصرٌّ على البقاء في لبنان لتحقيقها، ومنهم من طاوله اليأس ويسعى للهجرة.
وبسبب سكني قرب مقر “السجلّ العدلي”، رأيت الطامحين للهجرة، في الواقع (الذي جسّده المخرج في المسرح)، يُشكّلون صفًّا طويلاً للحصول على “سجلّ عدلي” كمستند يساعدهم في استصدار جواز سفر يخوّلهم الإنتظار في صفوف طويلة أخرى أمام السفارات. أمّا التفاؤل، فكان في المسرحية عبارة عن موعظة من والدة الصبيّة التي تزوّجت وما زالت تنتظر الفرج، هي في بيت أهلها وزوجها في بيت أهله. فالوضع الاقتصادي لا يسمح لهما بأن يكونا تحت سقفٍ واحد. وما كان من المُتفائل إلاّ أن خرج بنظرية أشبه بالواقع “المزيّف” الذي يشبه خطط وزارة الطاقة على مرّ الحكومات المتعاقبة على الفشل في إنتاج طاقة: “خلّينا نستفيد من ترميش الجفون لإنتاج طاقة بديلة!”.
وقد تطرّق المخرج في العمل، إلى موضوع المشاركة الشبابيّة، وذلك من خلال طرح موضوع الانتخابات، لكنّ على ماذا تمّ التصويت ومشاركة الشباب؟ هكذا: “نهاجر لنُذلّ أم نبقى… لنُذلّ أيضاً؟”. تمامًا كمن يُحكم عليه بالإعدام ويُترك له الخيار في طريقة إعدامه. لعبة المسرح التجريبي كانت مُقنعة جدًّا، فمن جهة لا ترفع رصيد النجوميّة الفرديّة لمُمثّل أو مشهد… لا بل هي أقرب إلى إيصال فكرة “مسار”، من خلال مشروع يهدف إلى توظيف طاقة الشباب في عمل فنّي لتعزيز رصيد الجماعة المُدركة لقضايا عالقة في الجوارير.
“من جارور لجارور” عمل مسرحي يجسّد عمل الدولة بنوّابها ووزرائها، والآيل إلى جوارير مُغلقة، وإن فُتح جارور لقضيّة ما، يسعى النائب أو الوزير لوضعها في جارور آخر. ومن ينسى النائب الذي هدّد منذ زمن بملفّات، لو فتحها لأطاحت رؤوساً كبيرة؟… هذه الملفّات مازالت حتّى الآن في الجارور!
وبالطبع، لا ننسى ان مجلس الوزراء أقرّ “خطّة عمل السياسة الوطنية للشباب”، في 12 أيّار 2022، وهي تتضمّن 20 توصية ذات أولوية، تتماشى مع الأولويّات الخمس لـ”وثيقة السياسة الشبابية في لبنان 2012″، أي “الخصائص السكّانية والهجرة” و”العمل والمشاركة الاقتصاديّة” و”الاندماج الاجتماعي والمشاركة السياسيّة” و”التربية والثقافة” و”الشباب والصحّة”.. وتحدّث المنسّق العام للأمم المُتّحدة ومنسّق الشؤون الإنسانيّة بالإنابة في لبنان، إدوار بيجبيدر، فقال: “يحتاج الشباب في لبنان إلى دعمنا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، ولذلك فإنّ تزويدهم بالمهارات وفرص العمل وغيرها سيمكّنهم من المساهمة في نهوض البلاد ودعم النموّ الاقتصادي”.
وفي ظلّ سيطرة الأحزاب السلطويّة على شباب الوطن، قلّما نصادف شباب تحرّروا من الأيديولوجيّات السائدة، كموضة لكلّ لبناني. فلا يمكنني أنا الجنوبي أن أكون معارضًا للفئة المُسيطرة على الجنوب بالمسمّى الطائفي. لقد شطبتُ المذهب من سجلّ النفوس، فهل لأني بلا مذهب، أفقد “مواطنتي”؟ وأقصد بذلك المصطلح الابتعاد عن مصطلح “وطنيّ”، فقد دخلت الوطنيّة في بازار الإصطفافات: مع 8 أو 14، مع الممانعة أو مع المعارضة…
صرخت ابنة الـ18 عاماً، والتي منعها القانون من الإدلاء بصوتها: “منبقى أو منهاجر، مش مهمّ، المهمّ ما بدّي أنذلّ.. ما بقى بدنا ننذلّ”.
من “جارور لجارور”، أراد عصام بوخالد أن يقول من خلاله بأن المسرح ما زال بخير. ففي وقت “البلطجة” التلفزيونيّة والحياتيّة، نلوك هويّتنا الضائعة، فتبرز على الشاشات هويّات تركيّة ومكسيكيّة.