عماد مرمل – الجمهورية
تشكّل العلاقة بين «التيار الوطني الحر» والبطريرك الماروني بشارة الراعي منذ مدة مادة للأخذ والرد، وسط استنتاجات متفاوتة لما آلت إليه هذه العلاقة على وقع المواقف التصاعدية لبكركي أخيراً.
مع اشتداد حدة الازمة السياسية بفِعل الاخفاق المتواصل في تشكيل الحكومة، راحت نبرة الراعي تعلو شيئاً فشيئاً، من دون أن تخلو من لوم ظاهر حيناً ومبطّن أحياناً، لرئيس الجمهورية ميشال عون على طريقة تعامله مع ملف التأليف.
وعلى الجهة الاخرى، إنزعج عون و»التيار» من حياد الراعي في معركة «حماية حقوق المسيحيين من خطر مخالفة الرئيس المكلف لقواعد الشراكة والميثاقية»، لكنّ ذلك لم يحل دون إبقاء خطوط تواصلهما مفتوحة مع بكركي عبر الموفدين، لمواجهة أي تأثير الحريري عليها.
وبينما كان عون و»التيار» منشغلين بتحسين مواصفات «الحضور المسيحي» في الحكومة المقبلة، حسب رأيهما، فوجئا بالبطريرك يدعو الى تدويل قضية لبنان وعقد مؤتمر برعاية الأمم المتحدة لمعالجتها، الأمر الذي قد ينطوي بشكل أو بآخر على «إدانة للعهد وإلصاق لتهمة العجز والفشل به».
وحسب «التيار» ان الراعي «لم يكتف بهذا المقدار، بل بادر من خلال تجمع السبت الى رفع سقف خطابه السياسي على وقع هتافات مندّدة برئيس الجمهورية والتيار اللذين استشعرا بوجود محاولة لاستغلال التباينات مع بكركي من أجل تفجير اشتباك واسع بينها وبينهما».
يدرك التيار أنه تبقى لبكركي رمزية ومكانة في الوجدان المسيحي مهما كان موقعها وخيارها، ولذلك اعتمد استراتيجية احتواء الخلاف مع الراعي ولم يذهب الى مواجهة مباشرة ضده، على رغم معرفته بأنّ رسائل بكركي موجهة في جانب منها الى قصر بعبدا وميرنا الشالوحي.
وبَدا واضحاً انّ التيار يتعمد التمييز بين الراعي وكلامه وبين القوى التي تريد استغلال موقع البطريركية وخطابها لمحاصرة رئيس الجمهورية و»التيار» وتأليب الرأي العام المسيحي عليهما.
يشعر «التيار» بأنّ البعض في الوسط المسيحي يحاول الاستقواء بالراعي وتجيير رصيده لحسابات خاصة، وبأنّ هذا البعض يسعى الى الاتّكاء على عصا البطريرك، بل استخدامها، في معركة الانقضاض على قصر بعبدا وميرنا الشالوحي.
و»تجنّباً للوقوع في فخ الصدام مع بكركي، وتفادياً لإعطاء خصومه فرصة استثمار مثل هذا الاشتباك لخدمة مصالحهم»، قرر «التيار الحر» ان يخوض المواجهة من داخل البطريركية المارونية وليس معها، متجنّباً إخلاء الصرح البطريركي لخصومه المسيحيين، فصارت معادلته تصويب وجهة الراعي لا التصويب عليه.
وضمن هذا السياق، تأتي الزيارات المتكررة لوفود وشخصيات من «التيار» الى بكركي سابقاً ولاحقاً، إذ انّ «التيار» يعرف انّ القطيعة او المقاطعة ستفسح المجال أمام «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب وقدامى 14 آذار و»محترفي الوَشوشة» ليسرحوا ويمرحوا في بكركي، فاختار تنظيم الخلاف مع سيّدها على تَسعيره، ومحاورته على محاربته.
ولئن كان منسوب التباينات في المقاربة السياسية قد ارتفع، غير أنّ «التيار» يميل في الآونة الأخيرة نحو تجميل هذه الحقيقة والتخفيف من وطأتها، عبر الاجتهاد في تفسير طروح الكنيسة حول الحكومة والحياد والتدويل، وصولاً الى إيجاد تقاطعات مع الراعي بدل الافتراق عنه.
يدرك «التيار» ان لا فرَص واقعية أمام التدويل والحياد لأسباب داخلية وخارجية معقدة ومتشابكة، ولذلك لا يجد مبرراً ليتحمّل هو مسؤولية الدفع نحو إسقاطهما بالمباشر ما دام انّ الظروف المحلية والدولية ستتكفّل بذلك.
وعليه، يسعى «التيار» الى التنقل بحذر وروية بين سطور خطاب بكركي في هذه المرحلة، فلا يؤيّده كاملاً ولا يرفضه كاملاً، بل يتعامل معه بالمفرّق وعلى القطعة، مسلّطاً الاضواء على القواسم المشتركة وتاركاً المواد الخلافية للنقاش في الظل.
ومن الأمثلة التي تعكس هذا الموقف المركّب، إشارة «التيار» في بيان صادر عن هيئته السياسية قبل أيام الى انّ «إعلان لبنان دولة محايدة أمر مفيد وطنياً»، لكنه لفت في الوقت نفسه الى انّ ذلك «يستوجب تحقيق مجموعة شروط من بينها موافقة اللبنانيين وقبول الدول المجاورة»، علماً انّ البرتقاليين واثقون في انّ تحقيق هذين الشرطين غير ممكن لا اليوم ولا حتى غداً.
وضمن إطار سعيه الى ملاقاة هواجس بكركي من دون التسليم بأجندتها، يذهب «التيار» في اتجاه تغليب التحييد على الحياد، إنطلاقاً من انّ تطبيق الخيار الأول لا يحتاج في رأيه سوى إلى عزف منفرد او قرار ذاتي، بينما يتطلب الطرح الثاني الذي يتحمّس له الراعي تلاقياً بين إرادتي الداخل والخارج بحيث انّ الأمر يخرج عن كونه شأناً محلياً فقط. وهكذا، افترض «التيار» انه بمعارضته زَج لبنان في محور ضد آخر، كما أكد في بيانه الاخير، إنما يتوافق بذلك مع جزء من طموحات بكركي الرافضة للانخراط في صراعات المنطقة ومحاورها.
امّا بالنسبة إلى طرح التدويل الذي رفع الراعي لواءه خلال الفترة الأخيرة، فقد قارَبه «التيار» من زاوية «إبداء الانفتاح على كل دعم خارجي يأتي للبنان من ضمن احترام سيادته واستقلالية قراره»، وفق أدبيات الهيئة السياسية، الا انه في المقابل لم يُبد الموافقة على دعوة البطريرك الى عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة لمعالجة الازمة اللبنانية المتفاقمة.
بهذا المعنى، يرفض «التيار» التدويل السياسي للملف اللبناني، وتحديداً في ما خَص مسألتي تشكيل الحكومة وتطوير النظام السياسي اللذين يعتبرهما شأناً سيادياً، الّا انه لا يعارض التعاون مع المجتمع الدولي في مجالات التصدي لكورونا واستعادة الأموال المنهوبة والتدقيق الجنائي والتحقيق في انفجار المرفأ.
باختصار، يمسك «التيار» العصا من الوسط في علاقته مع الراعي، ويسعى قدر الإمكان الى الحؤول دون أن تصبح بكركي في أحضان خصومه او أن يحتكروا هم حضنها، بحيث تبقى له مساحة فيه ولو من موقع الرأي الآخر.