
على مدى 13 عاماً، دخلت زينة إلى عمق السجون اللبنانية، وسخّرت المسرح لعلاج الجراح النفسية وفتح نوافذ جديدة أمام السجناء، بل وحتى تعديل بعض القوانين المجحفة بحقهم. واليوم، بعد سنوات من “السجن الطوعي”، تجد نفسها في مواجهة جديدة مع الحياة، برفقة جوزف جول، السجين السابق الذي أمضى 30 عاماً خلف القضبان، وسام غزال، الكوميدي الشاب الذي يضفي بأسلوبه العفوي نظرة ساخرة على الواقع.
هي من الأسماء التي أحدثت فرقاً حقيقيّاً في لبنان؛ ومن خلال مسرحيات وثائقية، أسهمت في دفع عجلة التغيير القانوني والاجتماعي، ومنحت السجناء فرصة للعدالة، والمجتمع فرصة لإعادة التفكير في أحكامه المسبقة. في هذه المقابلة، نتحدث مع زينة دكاش عن مسرحيتها الأخيرة “اللي شبكنا يخلصنا”، وعن المسرح أداة النجاة.ما الذي شكّل الدافع الأساسي لتحويل تجربة السجون والحياة في لبنان إلى عمل مسرحي؟
الفترة التي قضيتها في السجن لم تكن سهلة. أن تعمل طوال 13 عاماً داخل حبس، ثم تخرج إلى الحياة وترى العالم وما يحصل حولك من فوضى وأزمات متداخلة! أشعر كأنّني عشت كلّ هذا مع جوزف. تساءلنا بصدمة عمّا حصل في المجتمع لما خرجنا من السجن؛ كنّا نشعر بأمان أكثر داخل جدرانه، يحدونا الأمل في بلد منظّم. كنّا نعمل على تغيير القوانين، وإذ تداعى البلد! يمكن القول إنّ هذه المسرحة وُلدت من حاجة للتعبير عن الوضع الذي نعيشه.
لماذا اخترتِ أن تسردي شيئاً من قصّتك الشخصية في هذه المرحلة من حياتك؟
بصفتي معالجة بالدراما، وعندما أختار العمل المسرحي مع الناس – كما في “شبيك لبيك” مع عاملات المنازل، و”يوميات شهرزاد” مع سجينات سجن بعبدا اللبناني، و”من كلّ عقلي” مع المرضى النفسيين في مستشفى الفنار – أستخدم منهجية تستند إلى ما عاشوه وما تحدثوا عنه خلال العلاج، وما حاولوا إيجاد معنى له. وبإرادتنا وموافقتنا، ننقل بعضاً من هذه التجارب إلى خشبة المسرح.
هذه المرة، يمكن القول إنني طبّقت هذه المنهجية على نفسي، لأنني شعرت بصدق بأن هذا العمل سيساعدني. فقد مررت بالكثير خلال السنوات الست الأخيرة، من فقدان الأهل، إلى خوض تجربة الزواج وتربية طفل في بلد يواجه ظروفاً صعبة، فيما زوجي الأردني ليس مضطراً لمعايشة واحد في المئة مما نعيشه نحن. تلاشت أحلامي بوطن حقيقي، كما فقدت إيماني بالتغيير. شعرت بأن الوقت حان للحديث عن هذه الأمور، وبالفعل تحدثت عنها.
استغرقت كتابة النص نحو تسعة أشهر، تبعاً لحالتي المزاجية، ودوّنت فيه وقائع من حياتي وحياة جوزف. كان ذلك ثمرة جلسات عديدة معه، قبل أن ينضمّ سام إلينا لاحقاً.
كيف أسهم جوزف وسام، في تشكيل روح العمل؟
كانت رحلتي مع جوزف داخل السجن طويلة، وامتدّت إلى الخارج، إذ بقينا على تواصل دائم، أسبوعيّاً في البداية، ثم بشكل شبه يومي بعد خروجه. كنّا ندعم بعضنا بعضاً؛ حين يمرّ هو بمرحلة إحباط، أسانده، وحين أشعر أنا بالتعب، يشجّعني. ومن هنا، وُلدت الفكرة، واقترحت عليه تحويل ما نمرّ به إلى مسرحية، وبدأنا العمل بجدّية، نقضي ساعات طويلة في الكتابة والنقاش.
لكننا شعرنا بعد فترة بأننا بحاجة إلى طاقة جديدة، إلى شخص يمنح القصّة روحاً أكثر انتعاشاً، بنظرة مختلفة، شخص لم يعش التجارب التي مررنا بها، بل يأتي برؤية جديدة. بدأنا البحث عن هذا “الدم الجديد”، عن شاب أصغر سنّاً يمكنه تقديم منظور مختلف. وعندما التقينا بسام، أدركنا أنه الخيار الأمثل. كان يحمل براءة خاصة، شيئاً من روح الضيعة، ويقدّم عروض “ستاند أب كوميدي”، إلى جانب حبّه للمسرح. وهكذا، اكتملت التجربة.
هل تعتبرين أن المسرح، سواء الترفيهي أو التثقيفي، قادر على إحداث تغيير فعلي في المجتمع مثلما فعلتِ داخل السجون؟
المسرحية تُعرض منذ أكثر من أسبوعين، ومن خلال ردود فعل الجمهور والرسائل التي نتلقاها، يمكنني أن أرى كيف دفعت العديد من الأشخاص إلى التساؤل “لمَ لا؟”، وإلى إعادة النظر في أمور اعتقدوا سابقاً أنها غير قابلة للتغيير. كانت المسرحية بمثابة نداء لهم، تماماً كحال العروض التي قدّمتها داخل السجون، والتي لم يكن تأثيرها مجرد لحظة عابرة، أو ترفيهاً موقتاً، بل تركت أثراً ملموساً في حياة المشاركين والمشاهدين.
هذه المرة، لم يكن الهدف تعديلاً قانونياً كما حدث مع بعض العروض التي قدمتها في السجون، والتي تجاوز تأثيرها الجانب العلاجي إلى إحداث تغييرات فعلية، لكن الهدف من المسرح ليس فقط تقديم عمل فنّي يُصفَّق له ثم يُنسى، بل أن يترك بصمة تدفع للتفكير والتغيير.
كيف توازنين بين تقديم قصة شخصية عميقة وإضافة جرعات كوميدية إلى العرض؟
أؤمن بأن مواجهة الأمور القاسية في الحياة من دون حسّ فكاهي تجعلها أكثر وطأة. هذه رؤيتي العبثية للحياة في نهاية المطاف. لم يعدنا أحد بأن العالم سيكون مثاليّاً، أو بأننا لن نواجه الموت، أو أن الحياة لن تكون مليئة بالتقلبات والتحولات. إن لم نجد مساحة للابتسام وسط كلّ ذلك، فكيف يمكننا الاستمرار؟
لذلك، الكوميديا ليست مجرد إضافة اختيارية، بل هي عنصر جوهري وأساسي. التعامل مع الأمور بجدية مفرطة قد يرهق النفس، خصوصاً حين تكون هذه الأمور في جوهرها عبثية، مليئة بأسئلة لا نملك إجاباتها، وربما لن نملكها أبداً، لأنها ببساطة من أسرار الحياة التي لا يعلمها سوى الله.
برأيك، متى يشعر الإنسان بأن عليه طيّ صفحة من حياته والمضيّ قدماً؟
الأمر نسبي للغاية ويختلف من شخص إلى آخر، فلكلّ فرد تجربته الحياتية وإيقاعه الخاص. لا توجد إجابة قطعية عن سؤال “متى”، فهو ليس قانوناً ثابتاً. بالنسبة إليّ، أشعر بأنني في هذه المرحلة مستعدة لطيّ صفحة والانطلاق نحو شيء جديد، لكن قد يكون دورك غداً، وقد تكون ابنتي على وشك فتح فصل جديد في حياتها قريباً. الحياة سلسلة من التحولات، ولا يتعلّق الأمر بلحظة واحدة حاسمة، بل بتجارب متعددة نتعلم من خلالها كيف نمضي قدماً… أمامنا صفحات عدّة لنطويها.
كيف يمكن للتجارب الصعبة أن تتحول إلى مصدر إلهام بدلاً من أن تصبح عبئاً؟
عندما ندرك أنّ أحداً لم يعدنا بحياة سعيدة بالمطلق، وأن الموت حقّ وجزء لا يتجزأ من الوجود، تصبح نظرتنا للحياة أكثر عمقاً وحكمة. تأمَّل في الرسائل التي تحملها لك كلّ تجربة. الحياة تخاطبنا بطريقتها الخاصة، وكلّ حادثة تمرّ بنا تحمل معنى يمكننا استخلاصه. توقّف للتساؤل، للتأمّل، ولإدراك ما تحاول أن تخبرك الحياة به. وحين نفعل ذلك، تتحول الصعوبات إلى مصادر إلهام، لا إلى قيود تعوق التقدّم.