صدرت مؤخرًا عن دار النهضة العربية في بيروت دراسة بعنوان “مسرح العبث بين الصعود والأفول/ الوساطة النقديّة وسؤال الخصوصيّة في المسرح العربي”، للباحثة والشاعرة والمترجمة الفلسطينيّة ريم غنايم.
تطرح هذه الدراسة الشاملة لمفهوم مسرح العبث، سؤالاً مركزيًا: ما هي ملامح خُصوصيّة مسرح العبث عند أهمّ المسرحيّين العرب الّذين تمّ تعريفهم في دائرة النقد على أنّهم روّاد تجربة مسرح العبث، وإلى أيّ حدٍّ نَجَحُوا، عبر استراتيجيّات التّسويق والقَوْنَنَة، في خلق خصوصيّة للخطاب المسرحيّ العبثيّ على مدار عقد من الزمن (ستينات القرن المنصرم)؟
ولكَي تجيب الدراسة على هذا السؤال، فإنّها تتناول الظّروف، الآليّات والطّرائق التي شكّلت تجربة مسرح العبث وتحديد مدى قبولها كتجربة جديدة مستورَدة في المَسرح العربيّ في عقد الستّينات من القرن العشرين، تحديدًا في كلٍّ من مصر، سورية والعراق. تنطلق الدراسة من مفهوم المسرح كظاهرة اجتماعيّة لا يمكن فصلُها عن الفضاء الاجتماعيّ الذي يتكوّن من الجمهور، النّقاد، المنظّرين والكتّاب وأشكال استقبال مسرح العبث كظاهرة مُستنبتة في فضاء المسرح العربيّ. يَنْبَنِي هذا المفهوم على عنصرين ثقافيّين يحدّدان شكل الخطاب المسرحيّ للظاهرة المسرحيّة، العنصر الأول هو مفهوم “الهُجنة الثقافيّة” الذي يقترحه الباحث هومي بابا في سياق الخطاب ما بعد الكولونياليّ، والنّاتجة في نظره عن حدث المُثَاقَفَة وارتحال المفاهيم والنّظريات والمناهج من جغرافيّة إلى أُخرى. يؤدي هذا الارتحال إلى بروز خصوصيّة جديدة يُطلق عليها بابا مصطلح الحيّز الثالث تتولّد نتيجة الاحتكاك بين الثقافات ووقوع تغيّرات في بنية المفهوم وسماته الأصليّة. يستحضر هذا الحيّز سماتٍ جديدة لا تتطابق مع البيئة التي انبثق منها، ولا مع البيئة التي استُنبتَ فيها.
أما العنصر الثاني فهو الوكلاء المُهَيْمِنُون داخل الحقل (field) وصراعاتهم حول تحديد “شرعيّة” الظاهرة المسرحيّة الجديدة وإثبات حضورها أو تغييبها عبر استراتيجيّات عمل متنوّعة يشترك فيها الوكلاء القدماء في هذا الحقل (النّقاد الرّافضون) والوكلاء الجدد (المنظّرون المسرحيّون) السّاعون إلى تثبيته في حقل الخطاب المسرحيّ نقدًا وممارسةً. ترتبط مرحلة التّأسيس لنظريّة أو ظاهرة مسرحيّة في هذا السّياق، بالنّقاد الوكلاء الّذين يتحوّلون إلى مرجعيّات ثقافيّة، يؤسّسون أو يُقْصُون الظّاهرة الجديدة وذلك وفق مواقعهم داخل الحقل ووفقَ قدراتهم على التّأسيس والإقصاء.
تلقي الدّراسة الضّوء على ماهيّة وخصوصيّة ملامح مسرح العبث عند أهمّ المسرحيين العرب من الذين تمّ تعريفهم على أنّهم روّاد تجربة مسرح العبث، كما وتتقصّى مدى نجاحهم في استنبات مسرح العبث – كظاهرة غربيّة المنشأ- في التربة المسرحيّة العربيّة، والملامح المشتركة لهذا المسرح عند هؤلاء المسرحيين وعند كلّ مسرحيّ على حدة. تُقرأ خصوصيّة هذا المَسرح هنا، ضِمن السّجال التنظيريّ والنقديّ الّذي دار حول مفهومَي التأصيل والاستنبات، والسّمات التي اصطبغ بها هذا المسرح نتيجة المساعي لاستنباته في ظلّ مرحلة سعت نحو تأصيل مسرح عربيّ، الأمر الّذي ولّد خصوصية هجنة ثقافيّة حسّاسة في تعريف المصطلح على مستوى التّنظير والنّقد وعلى مستوى بنية النص المسرحيّ.
إلى جانب ذلك، تركّز الدراسة على معضلة بناء المرجعيّة النظريّة والنقديّة بوصفهما إطارًا يمنح الشرعيّة للنصّ الدراميّ وللقالب المسرحيّ. يواجه الكاتب المسرحيّ في هذا الحقل الثقافيّ أنماطاً عديدة من الصّراع: أوّلها الصّراع داخل البنية النقدية في هذا الحقل بمعنى أنّ التأسيس لاتّجاه أدبيّ جديد و”دخيل” قادم من الغرب في فترة غليان سياسيّ واجتماعي سيُجَابَهُ بهجوم ونقدٍ من قبل الوسط النقديّ أو الممثّلين القدماء له. الصّراع الثاني هو صراع داخليّ في إثبات المهارات التّنظيريّة والتّطبيقيّة معًا في هذا “الجديد”. الصراع الثالث هو صراع بين المسرحيين المنظّرين في تحديد مفهوم مسرح العبث ومفهوم التجريب وكلّ ما يقترن بهذا التّيار الجديد من مصطلحات ومفاهيم. نُلاحظ هنا اختلاف مفهوم التّجريب عند المسرحيّين الذين تتناولهم هذه الدراسة وهم: توفيق الحكيم، صلاح عبد الصبور، سعد الله ونّوس، وليد إخلاصي وفؤاد التكرلي.
يبحث الفصل الأوّل في البعد التاريخيّ وبحث فكرة “أَقْلَمَةِ” مفهوم العبث عبر ارتحال “دراما أو مسرح العبث” من مكانه الجغرافيّ (الغرب) إلى أراضٍ أُخرى (أميركا والمسرح العربيّ نموذجًا). هذا الارتحال، وزرع النّوع الأدبيّ في تربة غير تربته، محكوم بعثرات وعقبات قبول المصطلح، ودور الكاتب المنظّر في تهيئة هذه التّربة لقبوله. تتطرّق الدّراسة إلى إشكاليّة انتقال هذا النّوع المسرحيّ إلى العالم العربيّ، نتيجة عمليّة المثاقفة التي “أخصبت” تجربة المسرحيين العرب القادمين من الغرب أو المتأثّرين باتّصالهم بالغرب؛ وبالتّالي بروز ظاهرة “الهجنة الثّقافيّة” في السّياق ما-بعد الكولونياليّ.
يتناول الفصل الثاني من الدراسة البعد السّوسيولوجيّ لفكرة “تسويق” مسرح العبث و”الاعتراف به” داخل المؤسّسة النّقديّة المسرحيّة كمسرح جديد في العالم العربيّ. الوساطة هي حالة طبيعيّة تواجهها قوننة canonization كلّ نوع أدبيّ أو مسرحيّ جديد قادم من تربة مختلفة. من خلال بحث استراتيجيّات الخطاب النقديّ (الواردة سابقًا) التي استخدمها المسرحيّون في التّنظير (كفاعلين قدماء بحكم وجودهم في السّاحة الأدبيّة ومعترف بهم، وكفاعلين جدد بحكم كونهم أوّل من مارسوا هذا النّوع المسرحيّ الجديد ونظّروا له)، يتم التّأكيد على دورهم كـ”وكلاء” أو وُسَطَاءَ. ينطلق هذا الفصل من فكرة الحقل التي طرحها بيير بورديو ورأس المال الثّقافي والاجتماعي والرمزيّ للـ “أعوان” أو الفاعلين الاجتماعيين social agents، الّذين يتقلّدون مناصب سلطويّة داخل الحقل الثّقافيّ “المسرحيّ” ودورهم في إعلاء أهميّة أو التّقليل من شأن مسرح العبث، كإستراتيجيّات للحفاظ على بنية ثابتة للمسرح لا تزعزعها أيّ تجربة جديدة وافدة من الخارج. كان توفيق الحكيم أكثر المسرحيّين تنظيرًا، وذلك عبر/نتيجة الصّراعات التي دارت بينه كمؤسّس لظاهرة جديدة وبين النّقّاد “القدماء” داخل حقل الخطاب النّقديّ.
أمّا الفصل الثالث والأخير فيتطرّق إلى البعد الأُسلوبي والتّحليليّ للنصوص المسرحيّة وتبيان أشكال الهجنة في مسرح العبث العربيّ. تتناول بنود هذا الفصل البنية الشّكليّة للنصوص المسرحيّة وأشكال خلق خصوصيّة هجنيّة لمسرح العبث لدى كلّ من المسرحيين الخمسة: مسرح عبث واقعيّ، مسرح عبث بين الرمزيّة والفلسفة والواقعيّة، مسرح عبث تجريبيّ، مسرح عبث بأسلوب غربيّ، يخاطب الواقع، ومسرح عبث بمقاييس غربيّة بحتة.