رضوان السيد – أساس ميديا
خلال عامٍ واحد كتبتُ في “أساس” عن طرابلس ثلاث مرّات، وهذه المرّة الرابعة.
ما بقي وجهٌ من وجوه أزمة المدينة، وأزمة أهل السُنّة بعامّةٍ، إلاّ تعرّضْتُ له وشرحته. وأودّ تلخيص ما سبق لي أن قرّرته في المداخلات السابقة:
أوّلاً: أزمة طرابلس من الجهتين الاجتماعية والأمنيّة هي من الضخامة بحيث لا تتمكّن من حلّها إلاّ السلطات العامة. لكنّ السلطات ما قامت بذلك أو حاولته على مدى خمسين عاماً وأكثر. والمعروف أنّ السلطة التنفيذية ( = رئاسة الحكومة) هي دائماً بيد سياسي سنّي، وأحياناً من أبناء طرابلس، ومع ذلك ما حصل شيءٌ يمكن حسبانه لمصلحة المدينة وعمرانها وسكّانها. عشرات المواقع الرسمية في هذا العهد بالذات هي بأيدي العونيّين مثل المحافظ، وجمارك المرفأ وإدارته. ثم إنّ بلديّة المدينة المنتخبة لا تتّسم في أكثر أعضائها بالثبات ولا بالنزاهة والكفاية.
جبران باسيل اقتحم عام 2018 المدينة يحرسه مئاتٌ من رجالات الحرس الجمهوري وأمن الدولة. وإلياس بوصعب الذي كان وزيراً عونيّاً للدفاع سمّى طرابلس: قندهار! فهذه الدولة وهذا العهد يعتبران طرابلس عدوّاً لدوداً. ووزيرة الدفاع الحالية قالت في مؤتمر روما إنّ الإرهاب في لبنان لا يزال تهديداً حقيقياً، ويحتاج لبنان إلى المساعدة لمكافحته.
هذه الدولة وهذا العهد يعتبران طرابلس عدوّاً لدوداً. ووزيرة الدفاع الحالية قالت في مؤتمر روما إنّ الإرهاب في لبنان لا يزال تهديداً حقيقياً، ويحتاج لبنان إلى المساع
ثانياً: نتيجة هذه النظرة السلبية جدّاً إلى المدينة وسكّانها، فإنّها ظلّت طوال عقود عمليّاً تحت حكم الجيش والقوى الأمنيّة الأُخرى. ولا يعني ذلك أنّ استخبارات الجيش والأمن العام وأمن الدولة ومعلومات الأمن الداخلي طوال هذه السنوات استكشفت “العناصر التخريبية” أو المخلَّة بالأمن فخلّصت المدينة منها. بل كان سلوكها ولا يزال أدنى إلى إدارة الأزمات. صحيح أنّ في سجون المحكمة العسكرية مئات من الطرابلسيين من زمان، بل وبلغوا أحياناً (خلال الحرب في سورية) الآلاف، لكنّ معظم الأجهزة لا تتّسم بالاستقلالية والمهنيّة ولا بالخضوع لحكم القانون. وعلى الرغم من هذا الواقع المستمرّ من سنواتٍ وسنوات، فبعد كل واقعة اضطراب وإخماد تتصاعد آيات الشكر والتقدير للجيش والقوى الأمنيّة.
حتى في الواقعة الأخيرة حدث الأمر نفسه، إنّما هذه المرّة تصاعدت أصوات تقول: إنّ الجيش كان “يقنِّص” أيضاً! بيد أنّ عديدين أجابوا: لكنْ من الذين بدأوا إطلاق النار، وهل الجائعون مسلّحون، ولو كانوا كذلك لكان الأهون عليهم بيع سلاحهم للحصول على الغذاء. وقال فريق ثالث: بل إنّ الذين أرسلوهم أعاروهم السلاح وسيعيدونه إليهم.
ثالثاً: مَن الذين يشعلون الاضطرابات؟ وأنا لا أسأل عن التظاهرات هناك، بل عن الذين يكسّرون في الشوارع ويسدّونها ويحطّمون المصارف والمحلاّت التجارية، ويطلق بعضهم النار على البعض الآخر أو على القوى الأمنيّة. وقد قاموا قبل عدّة أشهر بإحراق مبنى البلدية بعدما نهبوه.
أزمة طرابلس من الجهتين الاجتماعية والأمنيّة هي من الضخامة بحيث لا تتمكّن من حلّها إلاّ السلطات العامة. لكنّ السلطات ما قامت بذلك أو حاولته على مدى خمسين عاماً وأكثر
في الثمانينيات والتسعينيات، وإلى مقتل الرئيس الحريري عام 2005، كان فريق أو فريقان مع النظام السوري أو ضدّه، يشعلون الحرائق. ويكون المراد بها رسائل داخلية في طرابلس أو رسائل إلى خارجها. لكن بعد عام 2005 وصراعات الحزب المسلَّح للسيطرة على لبنان، صارت هناك عدّة ميليشيات مسلّحة من “سرايا المقاومة” التابعة لحزب الله، إلى الميليشيا التي ساعد الحزب والنظام السوري على تكوينها في جبل محسن (العلوي)، فإلى الميليشيا التي شكّلها الحريريّون للدفاع عن باب التبّانة.
حتى الرئيس نجيب ميقاتي قيل إنّ عنده نوعاً من الميليشيا لحماية منزله ومؤسّساته، وكذلك الشاب الصاعد فيصل كرامي الذي يطمح الآن إلى رئاسة الحكومة. وبالطبع هناك دائماً المُسَمَّوْن “إسلاميين” أو “سلفيين” الذين يظهرون أو يختفون من دون أن يعرف أحدٌ كيف ولماذا، باستثناء الأجهزة الأمنيّة التي تسارع إلى القبض على بعضهم، وهم الذين يصلون إلى المحكمة العسكرية في النهاية ولا أحد سواهم.
ومع الثورة بدءاً بـ 17 تشرين، ظهر تكتيك جديد ابتُليت به المدينة. فالغوغاء والرعاع الذين كانت الميليشيات تستخدمهم في الاضطرابات، وأهملتهم لسنوات، فانقطعت مواردهم، صارت القوى والأجهزة التي تريد تخريب سمعة طرابلس والثورة الجديدة، تستخدمهم في التخريب مقابل مبالغ ضئيلة بحجّة أنّهم يدمّرون الرأسماليين، الذين تسبّبوا في الأزمة الاجتماعية والسياسية، مثل شارع البنوك، والمحلّات والشركات الكبرى والمؤسسات العامّة. وهؤلاء هم الذين نهبوا البلدية وأحرقوها، وكادوا يستولون على مبنى المحافظة. وقد ظهر هؤلاء أنفسهم في الأيام القليلة الماضية منطلقين من حيّ باب التبّانة البائس بحجّة الجوع وانقطاع الكهرباء باتجاه وسط المدينة هذه المرّة، وكان من حسن الحظّ أو من التخطيط أنّهم ما اتّجهوا صوب جبل محسن كما كانوا يفعلون سابقاً. بل إنّ جبل محسن تضامن معهم، وهذا يدلُّ بشكلٍ ما على مَن حَرَّك الاضطرابات.
رابعاً: تحدّثنا عن القوى الأمنيّة، وعن الذين يمتلكون ميليشيات للتحريك، وعن الرعاع البائسين الذين تحرّكهم جهاتٌ خفيّةٌ، وأحياناً الأجهزة المفروض بها المحافظة على الأمن. لكنّنا لم نتحدّث عن السياسيين في طرابلس، وعن الوجهاء والأغنياء، وعن الفئات الوسطى العاملة في التجارة والاستيراد والتصدير، وعن مثقّفي طرابلس في جامعاتها وهم كثيرون، وأوّلاً وآخِراً أين صارت الحريرية السياسية التي كانت مسيطرة في المدينة لحوالى ثلاثين عاماً؟
الصحيح والظاهر أنّ الحريريّة السياسية انهارت، وما ظهرت قيادةٌ أو قياداتٌ بديلة عند أهل السنّة في كلّ مناطق وجودهم وكثرتهم، وليس في طرابلس فقط
كان جورج خضر، مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس، يقول لي في الثمانينيات الماضية: الشيعة والموارنة يخضعون لزعمائهم، أمّا أنتم السنّة فإنّ زعماءكم هم الذين يسيرون وراء العوامّ. على هذا القياس، هل صحيح أنّ العوامّ الهائجين أصحابُ مسارٍ حتى يتّبعهم الوجهاء؟ العوامّ والغوغاء، حتى “الجهاديين” الأشاوس، ليسوا مساراً واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة أو أربعة. لكنّ الوجهاء بالفعل مرعوبون منهم دائماً. فالأمر كما يُروى عن الإمام علي عندما سُئل: “مَن هم الغوغاء؟”، فأجاب: “هم الذين إذا اجتمعوا خرّبوا، وإذا افترقوا لم يُعرفوا”.
ثم إنّ انقسام الوجهاء بالمدينة مثل انقسام العوامّ أو أشدّ. ففي الهوجة الأخيرة، اتّهم فيصل كرامي بذلك أحمد الحريري، واتّهم أشرف ريفي حزب الله وسرايا المقاومة، واتّهم شخص لا أعرفه الرئيس ميقاتي. وتنافس الرئيس ميقاتي وفيصل كرامي في مَن خاطب قائد الجيش منهما لإعطاء المازوت للمدينة. ويُقال إنّها “هوجة” انتخابية، فالانتخابات تبدأ في طرابلس مبكراً دائماً.
وبدون تطويلٍ أو تعويلٍ على نتائج انتخابات عام 2018، التي بدا فيها كلّ من الحريري والميقاتي قويّيْن… نعم، ما بدا السياسيون والوجهاء والأغنياء في العقدين الأخيرين قادرين ومؤثّرين حقّاً في المجال الاجتماعي أو المجال الأمنيّ بطرابلس. فلكلٍّ حارته أو حيُّه ولا شيء أكثر. بالطبع لدى ميقاتي المؤسسات الأقوى في المساعدة. لكنّ القصور في المجال الاجتماعي يبقى هائلاً. أمّا في المجال الأمنيّ فإنّ الأجهزة الأمنيّة المختلفة هي الأكثر اكتساحاً وقوّة، وكلّ وجيهٍ طرابلسيٍّ يتوسّل بهذا الضابط أو ذاك، وقرارات تلك الأجهزة تأتي من خارج، ولا تأثير لأهل المدينة فيها. فمثلاً لماذا تركوا البلديّة تُنهَب وتُحرَق، في حين حَمَوا مبنى المحافظة بأجسادهم وبنادقهم!
ويُقال إنّ المحافظ الأشوس ضرب آنذاك رئيس البلدية بعد أيّام عندما استدعاه ليستمع إلى أقواله، ولا أدري أيّ أقوال، ولماذا ذهب إلى ذاك الوبش.
إنّ الصحيح والظاهر أنّ الحريريّة السياسية انهارت، وما ظهرت قيادةٌ أو قياداتٌ بديلة عند أهل السنّة في كلّ مناطق وجودهم وكثرتهم، وليس في طرابلس فقط. ليست لدينا قياداتٌ سياسيّة راعية أو ضابطة، تتصدّى للمسؤولية جماعةً أو أفراداً، فكيف لا تظهر الراديكاليّات والغوغائيّات؟
قبل ثلاثة أيام ظهر على التلفزيون واحد خوري هو بالمصادفة رئيس جامعة الحكمة، وقال بين أمور أخرى إنّ السُنّة ليسوا لبنانيين ولا هويّة لهم أو انتماء.
أيّام رفيق الحريري، بل وأيّام رشيد كرامي، وصائب سلام، والمفتي حسن خالد، كان كلٌّ منهم يعتبر نفسه مسؤولاً، أمّا هذه الأيام فالأمر كما قال الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً ولكنْ لا حياةَ لمن تُنادي