منير الربيع – المدن
كأنما الاضطراب والفوضى والتحلل صارت تياراً جارفاً، وتنتقل فجأة من مكان إلى آخر في لبنان، وتصير أكثر فأكثر من حوادث الحياة اليومية العادية.
حقوق الطوائف ورغيف الخبز
والأرجح أن التيار الذي انطلقت منه هذه النوازع، مهدت له تسوية العام 2016 ومنحته الغطاء السياسي. فتلك التسوية رسخت القاعدة التالية: ما للسنّة للسنّة، وما للمسيحيين للمسيحيين، وما للشيعة للشيعة. وهكذا شُرِّعت الأبواب للصراع الطوائفي، ليختزل ممثلو الطوائف السياسيين حقوق ومناصب طوائفهم.
وأدى ذلك إلى تهميش السنّة من غير تيار المستقبل، وغير الموافقين على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وعمل سعد الحريري على استبعادهم جميعاً وعزلهم. وعلى الساحة الشيعية تمكن الثنائي من فرض قبضته الكاملة، ويستمر في تهميش أي جهة معارضة له أو متمايزة عنه. أما على الساحة المسيحية فحاول الثنائي المسيحي، باتفاقهما على إعلان النوايا، اختزال الوظائف والمواقع مناصفة وتهميش الآخرين جميعاً، حتى وقع الاشتباك بينهما في ما بعد، فتعرضت القوات إلى العزل، وأخذ عون يسعى إلى حصر الحصة المسيحية كلها في تياره.
ومهّد هذا لإنتاج الأزمات المتتالية: الصراع على الحصص والحقائب الوزارية في عملية تشكيل الحكومة المستعصية حالياً. وهو الذي أنتج التناتش على هندسات مالية أرادت الطوائف أو القوى الحزبية الطائفية الاستفادة منها. وكانت نتيجة التناتش هذا الانهيار الكبير الذي أوصل اللبنانيين، ليس إلى التقاتل على المواقع والوظائف وفرص العمل، إنما على صفيحة بنزين، أو رغيف خبز، أو قارورة غاز.
صراعات وغرائز بدائية
ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد. فالصراعات تتناسل وتتصاغر وتتحول إلى قدر وضرورة، على غرار ما حصل في عكار أخيراً: بعث صراع بدائي “ما قبل تاريخي”: من له أحقية الاحتطاب من غابة للحصول على الحطب على مشارف الشتاء؟ فـ”الشّحار (أي الفقر والبؤس) يولِّد النقار (أي التقاتل)”، يقول مثل عامي سائر.
والغطاء السياسي لمثل هذه الحوادث متوفر. وهو قابل لأن يغرق البيئة الاجتماعية المتجانسة في حمام دم، على أساس نزاعات جغرافية ومناطقية بلدية وأصغر من بلدية: يبن أهالي قرية واحدة وعائلة واحدة وبيت واحد. وذلك نتيجة انفلات الغرائز في أزمنة الشِّح والقِلَّة وانقلاب نظام العيش والقيم. فيما يتسابق الناس بحثاً عن أدنى مقومات حياتهم.
ولا يمكن لمثل هذه الصراعات أن تبقى محصورة داخل بيئة واحدة. بل تنتقل وتتمدد إلى بيئات متنوعة، كالقرى المختلطة طائفياً، أو بين الطوائف. فالصراعات هذه تنطلق من أعلى إلى أسفل والعكس صحيح.
وهكذا يتفشى منطق الكانتونات أو الإدارات الذاتية في كل منطقة أو قضاء أو بلدة، على غرار الابتكار الذي خرجت به مجموعات متعددة حول “بونات البنزين” المناطقية، فلا يمكن لابن الجنوب المقيم في بيروت الحصول على البنزين في ظل هذا التخصيص المناطقي للتوزيع.
الحرب الأهلية مثالاً
تدل مثل هذه الظواهر على حجم الانهيار اللبناني الذي يتخطى الدولة والسياسة والمؤسسات، إلى المجتمع والجماعات، ولن تتمكن مؤسسة سياسية أو سلطة أو حكومة من معالجته سريعاً. ولنا من حروبنا الأهلية المتناسلة (1975 – 1990) مثال ناصع على ذلك.
والانهيار الحالي أصبح اجتماعياً، يتداخل فيه الطائفي بالسياسي بالمناطقي بالطبقي بالغرائزي. وهو سيتوسع أكثر فأكثر على وقع الأزمة الزاحفة المتسارعة. وفي خضم الانهيار الكبير، تنفلت الصراعات فتتخذ بعداً أمنياً أو عسكرياً أو ميليشيوياً، في ظل عجز سياسي فاضح وواضح.
التلاعب بعكار.. لماذا؟
وتتصدر عكار المشهد حالياً، لأسباب كثيرة تنأى قليلاً عن التفاصيل اليومية اللبنانية، من دون إغفال أن الانهيار يفتح الطريق لمثل هذه الحال في مناطق أخرى.
وتحتل عكار حالياً مركز التصويب بعد طرابلس وبعد عرسال. فمنذ حادثة التليل القريبة زمناً، جاء واضحاً تحذير الرئيس عون: وجود قوى متطرفة في عكار. وقول صهره ورئيس تياره جبران باسيل إن المحافظة أصبحت خارجة عن الدولة، داعياً الجيش إلى وضع يده عليها. ولاحقاً طالب عون قائد الجيش بإعلان عكار منطقة عسكرية، لكن الأخير رفض لأن الإجراء ينعكس سلباً وخطراً على وحدة الجيش.
عرسال مثالاً
وما يجري في عكار ليس تفصيلاً. مقومات الاشتباك هناك قائمة. لكن هناك مصلحة لقوى عديدة بتغذية ما يجري. فالمنطقة قريبة من سوريا. ووصمت بأنها منطقة التهريب الوحيدة، وهي ليست كذلك. وهناك جهات عديدة ومتناقضة تتلاعب في المنطقة على جانبي الحدود. ولكل معركة فيها بعد استراتيجي تستفيد منه جهات متعددة.
البعض يريد تصوير المناطق السنّية مسلّحة ومتطرفة وإرهابية وخارجة على الدولة. وهذا تحديداً بعد أحداث خلدة. وبعضهم يريد الاستفادة باللعب على وتر التطرف والتشدد. والبعض الآخر يريد فتح أبواب التهريب أكثر فأكثر، وفتح أبواب التنسيق الأمني والعسكري مع سوريا في ظل الضغوط التي تمارس للتطبيع السياسي الرسمي.
وما جرى في عكار، يذكر إلى حدّ بعيد بما جرى تحضيره لعرسال منذ العام 2011، في بداية الثورة السورية، وقبل ظهور النصرة في العام 2013، وداعش في العام 2014.
وآنذاك كانت هناك جهات لبنانية عدة تلعب على وتر إحياء منطق الجماعات الإرهابية. وكان وزير الدفاع حينها قد صرح بأن عرسال تأوي عناصر من القاعدة، ولم تكن الثورة السورية قد تعسكرت بعد. وحدث ذلك في سياق سياسة ممنهجة اتبعها النظام السوري وحلفاؤه في لبنان.
ما يجري في عكار حالياً هو مخطط خطير، أبعاده متعددة. والأخطر أنه يتزامن مع تغذية منطق الإدارات الذاتية أو الكانتونات الطائفية أو المناطقية.