نقولا ناصيف – الأخبار
ما قد يسمعه الوزير جان ايف لودريان من المسؤولين اللبنانيين يعرفه. حفظه عن ظهر قلب وملّه ويكاد يمجه. لذا لن يكون مهماً. الاهم ما يريد قوله لهم في زمن الرمق الاخير، كي يكون ثمة مغزى لزيارته. الا اذا كان المقصود ان يكون شاهداً على الرمق الاخير
اولى العلامات المباشرة لهذا التوجّه كان مؤتمر بروكسل لوزراء خارجية الاتحاد الاوروبي بين 19 نيسان و22 منه، والعقوبات المفترضة على معرقلي «العملية السياسية في لبنان»، وهي تأليف الحكومة، اكثر منها توجيه اتهامات الى هؤلاء بالفساد والاقتصاص منهم لهذا السبب بالذات. بعدما قال في بيروت في اولى زياراته ان لبنان على شفير هاوية، قال في بروكسل ان البلاد في وضع كارثي وتسير الى الانهيار، متحدثاً عن اجراءات وتدابير عقابية ابعد من الضغط السياسي للحؤول دون هذا الانهيار.
واقع الامر ان المبادرة الفرنسية اضحت اقرب ما تكون الى رمقها الاخير. فشلت باريس في دور الوسيط في المرحلة التالية لمؤتمر سيدر عام 2018 – وهي راعيته – بحمل السلطات اللبنانية على مباشرة اصلاحات بنيوية في الاقتصاد والنقد. بعد سكرة نجاحها في اطلاق الرئيس سعد الحريري من الاحتجاز في الرياض عام 2017، ثم قيادتها الناجحة مؤتمر سيدر، باتت على اثر انفجار المرفأ في آب الفائت وجهاً لوجه امام الطبقة السياسية اللبنانية، عندما دعا ماكرون الى تنحيتها.
مذذاك، بانطواء مرحلة الوساطة، انتقلت الى ممارسة ضغط سياسي ما لبث ان اخفق منذ آب الى اليوم، رغم المهل الممددة التي منحها ماكرون للطبقة السياسية اللبنانية لتأليف حكومة اصلاحية، واكتشافه من ثم انها خدعته وكذبت عليه اكثر منها خذلته. في الاشهر الاخيرة تصاعدت نبرة المرحلة الجديدة التالية في قواعد الديبلوماسية الدولية، بعد الوساطة والضغط السياسي، هي التلويح بتدابير صارمة قبل الوصول الى العقوبات المؤجلة. كل ذلك لم يبعث الرعب في الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة، مقدار تلقفها التهديدات تلك بسخرية وتهكم غير خافيين. كل ما عناه الدور الفرنسي منذ مؤتمر سيدر، مروراً بانفجار المرفأ، انتهاء باقبال البلاد على الانهيار الشامل، فشله في المهمات الاربع تلك. ذلك ان مجرد الحديث عن عقوبات لا تقتصر على باريس، بل تشمل الاتحاد الاوروبي، يعني الاعتراف بالفشل تماماً.
لا يحجب ذلك كله البلبلة والغموض بإزاء مغزى زيارته الجديدة، المحاطة بعدد ليس قليلاً من علامات الاستفهام:
اولاها، ان الكي دورسيه الذي يترأسه لودريان، لم يفصح بعد عن زيارة الوزير الى بيروت. كلما راجع ديبلوماسي لبناني الخارجية الفرنسية عن صحة الخبر، لا يلقى جواباً، فيما سارعت السفارة الفرنسية في بيروت الى نفي الزيارة وادراجها في سياق اشاعة، ما ان كشفت عنها «رويترز». لم تكن السفارة اللبنانية في باريس على علم بها من دوائر الكي دورسيه، ولم يُنط ايضاً بالسفارة هناك التنسيق مع بيروت لتحديد مواعيد الزائر المهم، فاقتصر اعداد البرنامج على سفارة بيروت رغم دحضها الزيارة.
ثانيها، من وفرة التفسيرات المتناقضة التي اعطيت للزيارة المفاجئة في توقيتها، واكثرها تبسيطاً، ربطها بزيارة وزير خارجية المجر بيتر سيارتو لبنان في 26 نيسان، وتأكيده ان حكومته ترفض داخل الاتحاد الاوروبي فرض عقوبات على فريق لبناني مسيحي سياسي، دالاً بذلك مباشرة على النائب جبران باسيل وتياره. اتى هذا التأكيد بعد اربعة ايام على ارفضاض مؤتمر بروكسل لوزراء خارجية الاتحاد الاوروبي. اشارة مسبقة الى كسر احد اهم القواعد التي يبني عليها الاتحاد الاوروبي آلية اتخاذ قرار ما، وايحاءً بما قد يكون عليه موقف المجر، ما ان يُطرح فرض عقوبات على سياسيين لبنانيين. تستند القواعد هذه على:
– سند قانوني متين لقرار فرض عقوبات.
– اجماع الدول الـ27 في الاتحاد على القرار، ما يقتضي التوصل اليه مزيداً من الوقت وعقد جلسات التشاور وابرام تفاهمات تقود الى التوافق على هذا الاجماع، وتالياً خفض سقف توقعات العقوبات.
– حاجة كل من دول الاتحاد الى العودة الى سلطاتها الوطنية لاصدار قوانين محلية بفرض العقوبات، تبعاً لتقييم مصلحتها بالموافقة عليها والمبررات القانونية الواجبة.
ـ تُتخذ العقوبات في الغالب ضد حكومات وشركات ومؤسسات واحزاب وجمعيات وافراد ضالعين في ملفات ارهاب او غسل اموال وتمويل جرائم تحظرها القوانين الدولية، او تشكل ادوارهم خطراً جسيماً على الامن والاستقرار الاقليمي، فيما الاتهامات التي يسوقها الفرنسيون لتبرير العقوبات، ان ثمة سياسيين لبنانيين يعرقلون عملية سياسية هي تأليف حكومة جديدة في هذا البلد. مع ذلك، على وفرة اصدقائها داخل الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة، الغارقة حتى اذنيها في الفساد وتدمير الاقتصاد والنقد الوطني ونهب مقدرات الدولة، لم تسمِّ باريس اياً ممن توجّه اليهم اصابع الاتهام او الشبهات على الاقل.
من الوساطة الى الضغط السياسي الى التدابير فالعقوبات: فشل متراكم
بحسب واسعي الاطلاع على الموقف الفرنسي، فان لوائح الرؤوس المستهدفة – غير المؤكدة وغير القاطعة – تتطاير في الكي دورسيه دونما التجرؤ حتى الآن على الافصاح عن احد منها. بين هؤلاء لبنانيون حاملون للجنسية الفرنسية، وبينهم مستثمرون كبار وملاكون وذوو ثروات طائلة هناك، وبينهم شركاء سياسيون وحلفاء. لكن بينهم ايضاً مَن لا يسع الفرنسيين اغضابهم او استفزازهم بل التمسك بالابقاء على قنوات التواصل والحوار معهم وإن غير المجدي دائماً كحزب الله. لا يفوت باريس حرصها، ليس على مصالحها في لبنان الممتدة والراسخة في الطوائف والاحزاب والقوى السياسية فحسب، بل ايضاً على امن جنودها في القوة الدولية في الجنوب. من ذلك مغزى التساؤل الذي استبق وصول لودريان الى بيروت: يأتي لتهديد خادعي رئيسه أم لإغرائهم ومراعاتهم؟ مسعى متقدّم أم إشهار تقهقر؟
ثالثها، حصر محادثاته الرسمية، وفق المعلن رسمياً منها، برئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، واستبعاد ثالث شركاء المثالثة في الحكم الرئيس المكلف سعد الحريري، في مسألة الرجل معني اساسي فيها هي تأليف الحكومة. لم يصدر بعد ما يؤكد الاجتماع في بيت الوسط، رغم ما يتردد عن ان حصوله واجب وحتمي. وخلافاً للرياض التي فقدت كل امل محتمل في استعادة الثقة بالحريري واسترجاعه الى كنفها، لا تزال باريس تجده في قلب المعادلة السياسية وحليفاً موثوقاً به، في الوقت نفسه جزءاً لا يتجزأ من الطبقة السياسية الحاكمة الموبوءة.
على مرّ عمر المبادرة الفرنسية منذ انطلاقها في مطلع ايلول، وترحيبها بشخصية لا تمت بصلة الى الطبقة الحالية كالسفير المخذول مصطفى اديب والاصرار على حكومة غير حزبيين، ثم في المرحلة التالية، لم تقل باريس يوماً انها تريد الحريري رئيساً للحكومة. لم تقل ايضاً انها لا تريده او تعارضه. مع ذلك تصرّفت على انه رجلها المعوّل عليه ما دام يتذرع بتأليفه حكومة بمواصفات المبادرة الفرنسية. الواضح ان الفرنسيين اكتشفوا في نهاية المطاف، شأن موقفهم من عون وباسيل، ان الرئيس المكلف مقدار ما يُنظر اليه تبعاً لصلاحياته الدستورية وموقعه المرجعي في طائفته على انه احد عناصر الحلّ، يُعدّ كذلك مثل ندّيه الآخرين احد عناصر المشكلة.