غسان ريفي – سفير الشمال
مع إنطلاق ثورة 17 تشرين الأول عام 2019، ملأ اللبنانيون على إختلاف طوائفهم ومذاهبهم وإنتماءاتهم وطبقاتهم الاجتماعية الساحات والشوارع رافعين العلم اللبناني دون سواه ومطالبين باسقاط السلطة السياسية التي طفح الكيل من فشلها ومن الضرائب والرسوم التي تبتكرها وكان آخرها وضع تعرفة ستة دولارات على تطبيق الواتساب.
شغل اللبنانيون العالم أجمع بثورتهم التي قدمت صورة حضارية عن شعب واع مسالم يعلم ماذا يريد، فكانت التجمعات واحة للتلاقي الوطني ومساحات للحوار الفكري والسياسي حول المرحلة المقبلة مع تنامي الأمل بأن تكون مختلفة على مستوى الحكم في لبنان.
بعد أشهر قليلة بدأت الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية ترخي بثقلها على المواطنين من إرتفاع سعر صرف الدولار والانهيار الاقتصادي والغلاء الفاحش وفقدان الأدوية ورفع ساعات التقنين الكهربائي، وغياب المحروقات ونفاذ مخزون الطحين وتداعيات جائحة كورونا، إضافة الى مأساة إنفجار مرفأ بيروت.
كل ذلك، بدل أن يؤجج الثورة وتحركاتها، أدى الى إنسحاب تكتيكي للبنانيين من الساحات بعدما نجحت السلطة في إختراق الثورة، وفرزها لاستغلالها، فسارعت تيارات الى ركوب الموجة وكأنها لا تمت الى العمل السياسي ولا الى المشاركة في الحكم بصلة، وإعتمدت تيارات أخرى ممارسة القوة من خلال تفريخ شارع مضاد ينادي باسمها، فيما حاولت تيارات تجيير ما بقي من تحركات لمصلحتها لتحقيق بعض المكاسب، كما أخذ الحال أحد التيارات فانقلب على نفسه وتظاهر ضد الحكم الذي يمثله.
هذا الأمر، حوّل الثورة الى “سوبر ماركت”، الكل يريد أن يحصل منها على طلبه، في وقت لم ينجح فيه ما تبقى من ثوار في تشكيل إطار يمكن أن ينظم حضورهم السياسي، بل على العكس كانت الخلافات التي ساهمت في ولادة تيارات ومنظمات وجمعيات وهيئات ثورية كانت جميعها “كغثاء يحمله السيل”.
شيئا فشيئا تحولت الثورة الى تحركات إسبوعية تذكيرية، فيما الأزمات تتنامى على كل صعيد ومعاناة اللبنانيين تتحول الى مآس زاد منها قطع الطرقات التي ضاعفت من أعباء اللبنانيين الذين وجدوا أن عليهم أن يدخلوا الى سجن سياراتهم لساعات يوميا بسبب هذا السلوك المشين المترافق مع جريمة إشعال الاطارات التي تبث سموم دخانها الأسود في كل إتجاه وتحمل الأمراض معها الى كل المنازل.
كما لم يخل الأمر من جولات عنف كان وسط بيروت شاهدا عليها وكذلك طرابلس التي تعرضت لاحراق محكمتها الشرعية وبلديتها وأدى الى سقوط عدد من الشهداء زُج بهم في هذه التحركات التي لم تعد تشبه جوهر ثورة 17 تشرين.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل مع تجاوز الدولار الأميركي عتبة العشرة آلاف ليرة، وجد بعض من يسمون أنفسهم ثوارا زورا أن الرد يكون بقطع الطرقات على الفقراء، حيث كانت منطقة الشمال شاهدة على أسوأ تحركات يمكن أن تحصل من طرابلس التي قطع محتجون طرقاتها الداخلية التي ما تزال مجهولة بالنسبة للسلطة السياسية، فيما كانت الطامة الكبرى وقمة الاذلال على طريق البداوي ـ عكار التي أقفلت لساعات طويلة من دون وجه حق، ما إضطر بعض كبار السن الى قضاء حاجاتهم في السيارات، وكذلك في دير عمار والمنية وفي أحياء بيروت الداخلية وصولا الى طريق المطار وصيدا وطريق الجنوب وسائر المناطق.
وكان الأكثر خطورة هو الاعتداءات التي طالت مبان وسيارات وممتلكات خاصة وعامة إضافة الى الاساءات والشتائم وخرق الخصوصيات تحت شعار الاحتجاجات، الأمر الذي رفع من منسوب التوتر الذي كاد أن ينفجر مواجهات مع الأهالي الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في منازلهم.
ما يحصل هو أكبر مؤامرة على الثورة التي يبدو أن هناك من بات مكلفا بانهائها من خلال تحركات همجية غير أخلاقية قد تقود مدنا ومناطق وربما البلاد الى مواجهات عنيفة، خصوصا أن الأماكن والمقرات والطرقات الأساسية التي تزعج السلطة السياسية وتعرضها لضغط كبير لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، ما يطرح تساؤلات كبيرة حول الأجندات التي يسعى الموتورون الى تنفيذها، وحول دور الجيش والقوى الأمنية في التصدي لها، خصوصا بعدما أثبتت الوقائع أن كثيرا ممن يقومون بقطع الطرقات في كل لبنان هم على إرتباط بشخصيات محسوبة على تيارات سياسية!..