لم يكن الفن يوماً متخلّفاً عما يدور في العالم من حوادث تخرج عن نطاق المألوف. هذا الأمر ينطبق، بشكل أو بآخر، على أشكال الفن والأدب الأخرى، أكان ذلك كتابة أو شعراً أو موسيقى أو سوى ذلك. لقد شهد تاريخ الفن أعمالاً دخلت إلى قواميسه بقوّة، وصار بعضها ذا شهرة حتى لدى من لا دراية حثيثة له بالتاريخ المذكور.
تلك هي حال “غرنيكا” بيكاسو (1937). وقد ذكر الباحثون في تاريخ الفن المذكور، أنه في حين حفل الماضي بأعمال فنية توثق الصراعات الكبرى، بطريقة بطولية أو رومانسية، يمكننا، في القرن العشرين، إعتبار أن غرنيكا وحدها لا تزال مؤهلة لأن تكون لوحة تاريخية.
على أن أموراً حدثت خلال المرحلة التي سبقت غرنيكا، أو تلتها، إذا ما اعتبرنا العمل الشهير نقطة مفصلية فيما يخص النتاج المتعلّق بمسائل الحرب والقتل. إذ إن الحرب، كعمل عسكري يتصارع فيه طرفان، لا بد من أن يؤدي إلى وقوع ضحايا. وقد يكون من أوائل الأعمال التي تتطرّق إلى الذهن، هو العمل الذي قام برسمه فرنشسكو غويا (1746- 1828)، العام 1814، في إشارته إلى ليلة 2 إلى 3 أيار 1808، حين قام الجنود الفلرنسيون، رداً على ثورة 2 مايو، بإعدام المقاتلين الإسبان (حوالي 400 عملية إعدام). في اللوحة المذكورة ثمة تمجيد رومانسي للشجاعة الثورية، وكان غويا قد رسم قبل ذلك لوحة “الثاني من مايو”، لكن Tres de Mayo 1814، المشار إليها، كانت هي التي تركت إنطباعاً عالميا، وبقيت في الأذهان، نظراً لطابعها الذي يتخطّى حدود إسبانيا، ليبلغ آفاقاً ذات طابع أممي شمولي.
وإذ يخطر في بالنا أن عملية الإعدام هذه، اعتبرت فريدة من نوعها في حينها، لجهة عدد الذين أنهى الفرنسيون حياتهم في ليلة واحدة، فهي لا تُقاس بما يحدث في الوقت الحاضر في بلادنا، وفي فلسطين ولبنان تحديداً. فقصف مبان وتدميرها بالكامل على من فيها، ليس سوى عملية إعدام جماعية، مع الفارق أن الثوار الإسبان كانوا “ارتكبوا جرماً” من خلال مقاومتهم للفرنسيين، في حين أن سكاناً لا شأن لهم بما يحدث، ولم يرتكبوا ذنباً سوى وجودهم في تلك البقعة من الأرض التي تم مسحها من الوجود.تتم عملية الإعدام ليلاً، كما ذكرنا. السماء ثقيلة وتنبىء بالخطر. جميع درجات اللون الأسود ممزوجة بالبني المنغنيز. ومن بعيد، تبدو مدريد ذات لون بني غامق وبحسب نمط مونوكرومي. هذا التمثيل للمدينة غير دقيق، لكن الفنان لا يسعى إلى تصويرها بشكل واقعي، وهي مسألة غير مجدية، لأن عنوان اللوحة كافٍ لإعلام المشاهد بما يدور على الأرض. فالهدف الأساسي هو استحضار الحدث ووضعه في مقدمة اللوحة، أما الإضاءة من الجهة اليسرى أكثر من الجهة التي تقابلها، فتهدف إلى إظهار لعبة الضوء والظل، ومنح العمل بعداً درامياً، هذا، حين أن برج الكنبسة الواقع في الخلفية يشكّل محوراً رئيساً يقسم اللوحة إلى جزئين.
في أجواء الحرب ومؤثراتها
إريك كينينغتون (1888-1960)،هو فنان إنكليزي، كان جندياً في صفوف المشاة في بداية الحرب العالمية الأولى. أصيب في يونيو 1915 وتم إجلاؤه. خلال فترة النقاهة رسم: “آل كينينغستون في لافينتي”، حيث يمثل نفسه مع مجموعته من جنود المشاة. فصيلة من الجنود البريطانيين تقف في شارع إحدى القرى. ثمّة جدار أبيض خارجي في الخلفية، وثلوج على الأرض، وحطام متناثر، وفوقه صليب في الزاوية العلوية من التأليف. تم تجميع الشخصيات بشكل فضفاض على اليسار، مع رجل مستلقٍ على الأرض، وآخر يقف إلى اليمين. يحدق كل رجل في اتجاه مختلف، وقد حُددتْ الأشياء المعدنية: خوذة، وشوكة، وإبزيم حزام بطلاء معدني ذهبي.تصور اللوحة لحظة انشقاق مجموعة من الجنود عن الفصيلة، بعد أن قضت أربعة أيام بلياليها في خندق أمامي لإطلاق النار، وهي في طريقها عبر ممر اتصالات مغمور بالمياه إلى قرية لافينتي المدمرة. ينتظر الرجال الأمر بالانضمام للسير مسافة خمسة أميال إلى ملجأ ليلي خارج نطاق القصف. يُعتبر هذا العمل من أهم الأعمال التي عملت على تصوير لحظة من لحظات الحرب، من دون اللجوء إلى مقاربات بانورامية كتلك التي ميزت مشاهد المعارك المتخمة بالجنود خلال القرن التاسع عشر، وذات الطابع الرومانسي الذي سبق الحديث عنه.
التحق الفنان الأميركي من أصل ألماني غيرت هاينريش فولهايم (1894-1974) بصفوف الجيش ليخوض الحرب بعد أن ترك دراسة الفنون الجميلة في فايمار، العام 1914. أصيب في بطنه، العام 1917، وقام بالرسم أثناء فترة النقاهة. قد تكون لوحة “الرجل الجريح” (1919) من أشهر أعمال الفنان ذات الطابع التعبيري، وهي تمثل إحدى الصور المروعة التي لم يستطع إنتاجها فنان آخر كان شهد الحرب العالمية الأولى وشارك فيها. تُظهر اللوحة الزيتية على القماش جنديًا نصف عارٍ يتلوى في عذاب مبين، بعد تلقيه جرحًا مميتًا في البطن. وقد استخدمت نسخة من هذه الصورة كواحدة من “رسومات الدكتور ليكتر” في فيلم “صمت الحملان” – 1991 (الحائز جائزة الأوسكار، وهو من بطولة أنتوني هوبكينز وجودي فوستر).
لوحات كيفر العملاقة
حين سُئل الفنان الألماني أنسلم كيفر: لماذا يعمد إلى تمثيل معظم المناظر الطبيعية لديه على أنها أطلال؟ أجاب أنه لا يستطيع رؤية المناظر الطبيعية من دون التفكير في الحرب. فالنسبة إليه، إن تلك البطاح التي يرسمها مشبعة بآثار المعارك التي دارت فيها. لقد تميز الفنان، المولود في دوناوشنغن بألمانيا في 8 أيار من العام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية يوماً بيوم)، من حيث كونه أحد أهم الرسامين الألمان في فترة ما بعد الحرب. أعمال كيفر ذات مقاسات عملاقة، سواء من حيث الحجم، أو من حيث استخدامه للمواد في نطاقها الرمزي المثقل بالتاريخ والذاكرة، كما من حيث الضرورة المطلقة لصانعها في التعبير عن مشاعره الفنية عبر أحجام خارجة عن العادة.
لم يصوّر كيفر الحرب في المعنى الواقعي للكلمة. ساحة الحرب لديه هي عبارة عن زهور متكسرّة على بركة من الدم. الأثلام في الأرض تبدو وكأنها أرتال الجنود الذاهبين إلى مصير مجهول، ضمن منظور مكاني سوريالي. يعتقد الفنان أن الكائنات البشرية كانت صُنعت بشكل مشوّه في الأساس، والدليل على ذلك هو سعيهم إلى استنباط صراعات لا تنتهي. يقول كيفر إن تاريخ بلده وتربيته جعلاه يعمد إلى شراء أكياس كبيرة من الرز والسكر، إذ اعتقد أن الحرب ستبدأ من جديد. (تتهافت الخليقة دائماً على الحوانيت خلال الحرب، وتبتاع موادا غذائية تفيض عن حاجتها، وهو ما نشهده في هذه الفترة في بلدنا الغارق في حرب لا نعرف كيف ستنتهي).
يمكن القول إن لوحات كيفر العملاقة ليست عبارة عن صورة واحدة أبدًا، بل هي طبقات من الصور. وكأن أعماله تكشف في مناطق معينة من اللوحة عن هذه العملية بنفس الطريقة التي يُظهر بها الحفر الجيولوجي الطبقات التي تراكمت على مر العصور. الأمر يشبه تجميع عناصر مختلفة في العمل الواحد، وقدلا تكون مترابطة فيما بينها. في عملهLa cabane de Heidgger ما نراه في الجزء السفلي من اللوحة هو منظر طبيعي شتوي. المنزل الصغير الموجود في الوسط هو كوخ هايدغر. أما في الجزء العلوي، فإن ما يبدو وكأنه السماء هو في الواقع منظر طبيعي صحراوي مقلوب. “إنها لوحة صحراوية مكوّنة من عدة أجزاء”، يقول كيفر.