شعار ناشطون

فالتر بنيامين وفلسطين.. عن الجدليّة الشّجنة وتمارين الحِداد

02/09/24 09:21 am

<span dir="ltr">02/09/24 09:21 am</span>

 

“حدّثْهم عن العُشب الذي له عيون،

وعن التّراب الأعمى،

عن الرّياح التي كانت تريد أن تقول شيئًا ولم تقلْ !

وعن الفراشة البيضاء الصّغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشّتاء، كي تدخل وتتدفّأ”. (وديع سعادة)

 

على ساحل بورتبو، شماليّ برشلونة، وُجِدَ رجلٌ في نهاية عِقده الرّابع ميّتاً باتجاه الجنوب. بعدما راجت شائعةُ تطبيقِ قانونٍ يمنع العابرين من اجتياز الحدود، قرّر فالتر بنيامين تناول جرعة قاتلة من المورفين على الحدود الفرنسيّة-الإسبانيّة، خوفاً من الوقوع في يد حكومة فيشي أو الغيستابو. أحصت محاضر الدّرك الإسبانيّ مُخلّفات الفقيد: منديلٌ، ساعةٌ رجاليّة، غليونٌ، ستُّ صور، وأوراقٌ مجهولة المحتوى. من بين تلك الأوراق، كانت رسالته الأخيرة بالفرنسيّة: “في وضعيّة بلا مخرج، ليس لي من اختيار سوى وضع حدّ لكلّ هذا. ستنقضي حياتي في قرية صغيرة بجبال البرانس حيث لا يعرفني أحد”. من وراء المحيط الأطلسيّ، في أميركا إلى حيث كان يعتزم الذّهاب، كانت الكوابيس تطارد صديق بنيامين، ثيودور أدورنو، الذي كان يحلم بالموت اختناقاً بالغاز.

 

مثل كثير من أقرانه، من يهود أوروبا، خفق قلب بنيامين الشّاب بين القدس وموسكو، ورغم الدّعوات المُتكرّرة التي وجّهها إليه غيرشوم شوليم، صديقه الأقرب، إلاّ أنّه بقي رافضاً لفكرة الهجرة إلى فلسطين. تكتب حنّة آرنت في كتابها عن بنيامين: “كانت الصهيونية والشيوعية بالنسبة لليهود من ذلك الجيل (كان كافكا وموريتز غولدشتاين أكبر بعشر سنوات فقط من بنيامين) شكلين من أشكال التمرد المتاحة لهم – يجب ألا ننسى أن جيل الآباء غالباً ما كان يدين التمرد الصهيونيّ أشدّ من التمرد الشيوعيّ”.

 

أبداً لم يلتزم بنيامين بالصهيونيّة، بل ناقشها وحلّلها في إطار أوسع من تأمّلاته حول اليهودية والثقافة الأوروبية، وظلّ موقفه نقديّاً ومتوازناً، متأثراً بانشغالاته الفلسفيّة والسياسيّة الخاصّة. ومع أن فكرة الهجرة إلى فلسطين بقيت تراوده، من دون أن يقدم عليها، فقد عبّر بوضوح أنّ حلّ المسألة اليهودية يكمن في التحول الروحيّ بدلاً من إنشاء دولة قائمة على العنف وحالات الاستثناء. يكتب في رسالة إلى شوليم العام 1930: “المصير اليهودي ليس مسألة عودة إلى صهيون. بل يتعلق الأمر بفهم وحفظ التراث اليهودي في سياق حديث، وهو ما يتطلب تفكيراً أعمق بكثير من مجرّد مشروع قوميّ”. تكشف مراسلات شوليم وبنيامين إذن عن التوتر بين ضياع النص في العودة إلى أرض موعودة والدفاع عن الفكر في تشظيه الزماني والمكاني. إنّ تردد بنيامين في الهجرة إلى فلسطين كان نابعاً من أسباب متعددة، بما في ذلك شكوكه تجاه الصهيونية، وارتباطاته بالثقافة الأوروبية، وانشغالاته الشخصية والمهنية. كذلك استقرّ على رفقة الماركسيّين، وفضّل صحبة السرياليين، وتيه المشّائين الزاهدين في باريس…

 

في باريس، بعد السّابع من أكتوبر، تجدّد لقائي بصديق قديم يُدعى غازي بركات. فنّانٌ عصاميّ، يسبر أغوار العلاقة بين الموسيقى التجريبية والإلكترونية، وبين الموسيقى العربيّة من جهة أخرى، وهي موسيقى تشكّل جزءًا من جذوره وهويته. ولد غازي لأب فلسطينيّ وأمّ ألمانيّة، وعاش طفولة مُتقلّبة، متنقلاً بين المدن والبلدان، من لبنان إلى ألمانيا الغربية وسويسرا. هي طفولة ابن قياديّ في منظمة التحرير الفلسطينيّة. يتحدّث غازي العربيّة من ذكريات سنواته البيروتيّة، ومثل بنيامين، لا يضحك إلاّ نادراً. عندما جلسنا عشيّتها، نحصي القتلى والأشجان، كانت أبيات مظفر النواب تحفر في رأسي مثل فأس كلّما حقّقتُ النظر إلى عينيّ غازي الذابلتين: “سنصبح نحن يهود التاريخ/ونعوي في الصّحراء بلا مأوى”. لماذا نعوي؟ ومن تكون بنات آوى في قصّة كافكا عن العرب؟

 

بالنسبة لحنّة آرنت، لم يأو بنيامين إلى الصهيونيّة ولا هو اقتنع بالشيوعيّة يوماً، وذلك في وقت تصاعد فيه العداء بين أتباع كلتا الإيديولوجيتين. فقد كان الشيوعيون يصفون الصهاينة بـ”الفاشيين اليهود”، وكان الصهاينة يسمون الشيوعيين اليهود الشباب بـ”التغريبيين الحُمر”. ففي نظرها (آرنت)، بقي بنيامين متأرجحاً بين سبيلين يُحرّرانه ويُكبِّلانه في آن. لكن ادعاء آرنت يكاد ينهار أمام ما يقوله هو نفسه في رسالة إلى فيرنر كرافت العام 1934: “إنّ الصهيونية، في سعيها لإقامة دولة يهوديّة، غالباً ما تتجاهل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية الأوسع التي تؤثر على حياة اليهود في الشتات. لهذا السبب أجد أن الماركسيّة تقدم منظوراً أكثر شموليّة للمسألة اليهودية”. بهذا الشكل، دون أدنى شك، كان بنيامين قد اختار الاصطفاف ضد الصهيونية، باحثاً عن أدوات يُفكّك بها أوهامها واحتيالاتها الآتية باعتبارها أطروحة بورجوازية في صميمها، مطوّراً مواقفه بعيداً عن كلّ من المؤسستين الرسميتين، الأدبية والأكاديميّة، بل وبعيداً عن الأصدقاء الذين لم يحفظوا العهد…

 

مع مضي السنين، انتقل الصّراع حول إرث بنيامين من النصوص، التي استعصى على الصهيونية إنطاقها بما لا تقول، إلى ميدان الصّورة ومصائرها، وإلى المتاحف والغاليريهات والبينالات والندوات. فقد نظّمت مجموعة من الفنانين والأكاديميين، بين 7 و11 كانون الأوّل 2015، مؤتمراً دوليّاً في رام الله ردّاً على قرار الجمعية الدولية لفالتر بنيامين عقد مؤتمرها السنوي في الجامعة العبرية بالقدس… وبين عاميّ 2015 و2023، أقدمت إسرائيل على تنظيم عدّة معارض فنية، كان أهمّها معرض أقامه متحف الفن في يافا المُحتلّة (تل أبيب)، ومعرض آخر في متحف إسرائيل بالقدس بهدف “إحياء” أرشيفات بنيامين. هكذا شرعت دولة الاحتلال، كما فعلت مع رموز من التاريخ الفكري والفني اليهودي الذين عجزت عن استمالتهم قيد حياتهم، في اختطاف أيقونة أخرى تزوّر تاريخها وترميها عظمة مسلوخة إلى شباب التِّلال.

 

كذلك استولت دولة الاحتلال على لوحة الملاك الجديد لبول كلي (1920)، والتي كانت في حوزة فالتر بنيامين بعدما اشتراها بألف رايخ مارك ألمانيّ، وطلب من جورج باطاي إخفاءها في المكتبة الوطنية بباريس عام 1940. كان بنيامين قد أوصى باللّوحة لصديقه شوليم، فأهداها ورثة هذا الأخير لمتحف إسرائيل بعد موته. ههنا تتجسّد الجدلية الحزينة، فاللوحة التي استشعر بنيامين فيها حريّته وخلاصه من فقره ومن عبء الخلاص، ومن الخلاص نفسه؛ تلك اللوحة التي رأى فيها راحته المؤجلة التي عجزت الثيولوجيا عن التعجيل بها، ها هي قد صارت اليوم في قبضة مارد رفض التحالف معه. ولعله الآن يسمع صدى كلام كلي نفسه وهو ينظر إلى اللوحة من أعلى: “هنا، في الأسفل، لست مُدرَكا البتة لأنني أسكن بين الموتى مثلما أسكن بين أولئك الذين لم يولدوا بعد”.

 

في رسالة مؤرخة بـ 26 أكتوبر 1940، بعد انتحار بنيامين بأسابيع، كتب شوليم إلى صديق لم يذع خبر موته بعد: “عزيزي فالتر، الأخبار الآتية من أوربا لا تتوقف عن إثارة قلقي. أفكر فيك باستمرار وآمل أن تجد طريقة للخروج من هذا الكابوس. أنا مستعد لفعل أي شيء لمساعدتك على القدوم إلى فلسطين، حيث ستكون في أمان. أرجوك، اكتب لي فور ما تستطيع وطمئني عن حالك. كثيرون هنا ينتظرون سماع أخبارك. مع كلّ محبتي، غيرشوم”.

 

كيف نودّع الآخر الغريب؟ كيف نعتبره منّا وهو مغادر؟ إنّ بنيامين واحدٌ منّا، وإن كان غريباً عنّا في حياته ومماته، فإنّنا نودّعه كما نودّع شهداء فلسطين في القطاع والضفة والدّاخل… وحدها غزّة، بالأشلاء والأطراف اللحمية والدماء، تحمل ذكرى هذا الصديق اللّدود الذي لم يودّعه أحد أثناء رحلته الأخيرة… الوداع، عندما نقوله، عندما نتلفظ بكلمة الوداع في العربيّة، كلّ في نفْسه، واحداً واحداً، واو دال ألف وعين، تتحقّق عين الوديعة: نقول أودعتك، أي أمّنتكَ وأنا مودّع، هامٌّ بالسّفر، بالخروج، بالرّواح، باحتمالات الغياب نحو حتميّة الموت. مت وكن. كينونة هي مؤجلة للحظة النّفخ. الرّوح تنفخ، والنفس تنفخ والكتابة تبشر بالنفخ، والمَلَكُ ينفخ في الصور، والصُّورُ قرن البقر. النفخ آذانا وإيذانا بالقيام إلى حيث نبقى نفكّر ونتفكّر في اللّغة، ونَعُدُّ قبيل انقطاع العَدِّ، وحلول الحساب.

تابعنا عبر