صدرت رواية “غرق السلمون” للكاتبة السورية واحة الراهب عن دار هاشيت أنطوان/نوفل. في هذه الرواية، تضع الكاتبة شخوص روايتها أمام أسئلة ومآزق مختلفة، أبرزها سؤال الهويّة الذي لا ينفكّ يمتحن إنسانيّتهم، وهم يهمّون بالتحوّل إلى مسوخ… أو يهربون من خياراتهم المحتّمة بالقفز في المجهول. تنشر “المدن” هنا فصلاً منها…
الفصل الأوّل
حاسّة التنبّؤ تلك رافقت مراهقتي وجزءًا من شبابي، وأظنّها استحوذت عليّ فكنت أكثر سموًّا عن الحاجات الماديّة، وأقرب إلى تلك الروحيّة. كان شعورٌ طاغٍ بالذنب قد تلبّسني تجاه نجاتي وموت سراب منذ استيقاظي من غيبوبتي، وكان الشعور يتفاقم ويلاحقني إنْ تجاهلت حاجات الآخرين أو آلامهم وأحزانهم، حتّى بات على حساب ذاتي وحاجاتي المتراجعة أمام راحة مدّ يد العون للآخرين. لا أتمتّع حتّى بوجبتي إن لم أشاركها مع الآخرين… وحتى لو شاركتها مع الشغّالة التي تعمل في بيتنا أو مع الطبّاخة أو البستانيّ المسؤول عن مزرعتنا وعمّالها، كنت أعطيهم في الخفاء المال وأهرِّب لهم الكثير من الطعام لعائلاتهم، متغاضيةً عن رعبهم من مسؤوليّة اكتشاف أبي للأمر. كنت أبرّر أخطاء الآخرين بحقّي دون أحقادٍ أو ضغينة، حصَّنني جهلي بهذه المشاعر طويلًا من الأذى الذاتيّ الذي تسبّب به اكتشافي لاحقًا لشعور الكره البغيض. ولردّ الأذى عنّي، كنت أكتفي بحبس نفسي خلف زاوية خزانتي، أبكي ألمي وأفرغ أحزاني ممّن آذاني. ولا أتخيّل نفسي أعرّضه لنفس الألم الذي سبّبه لي إن رددتُ الأذى له وعرّضته لما تعرّضت له من جراح. كنت أحقّق بذلك نقاء استشفافي من شوائب الأذى الذي أُلحق بي، بصحوة روحيّة تسمو بي عن صغائر الأفكار والردود الحقودة الانتقاميّة، مودعةً للكون حق الرّد والاقتصاص ممّا لحق بي.
ما عادت لحاجات جسدي قيمةٌ حينها، وما عاد جسدي يتعدّى كونه فلترًا ينقّي حاجات روحي، معيدًا الصفاء إلى فكري ووجداني من جرّاء استشراء النفاق والزيف حولي، ومعينًا إيّاي على رؤية ما هو أبعد من مادّية العالم الفاني وجحيم جشعه النهم. اجتذبت إلى قدري حينها أروع حبّ يمكنه أن يخفق في فؤاد… مجرّدٌ من أيّ نفاقٍ أو منفعةٍ أو حاجات. حبٌّ مصيري لازمني كأنّه القدر، حين اعترض ربيع بسهم عينه الحارقة طريقي، وحرفه إلى طريقٍ غير معتاد. أشرقت عينه وضّاءةً ليسطع بريقها في عيني المترعة بشغفٍ طال انتظاره، واستوقفت ناظري بسحر استلابها لجوف أعماقي. تخدّرت خطواتي حين تقاطعت مع جسده الأثيريّ، كأنّما اتّحدت هالته بهالتي إلى الأبد. تجاوزني يومها، مخلّفًا جثّةً احترقت بصعقتها وذوت كعمود ملح، كزومبي يتحايل على جسده المطفأ، يستمدّ شحنته من قوّة الصعقة التي أشعل تيّارها كلّ حواسّي، مبقيًا أحشائي في حالة احتراق كسعير نار الجحيم الأبديّة، لم تخفّف من استعاره إلّا مصادفةٌ أخرى اكتويت بطول انتظارها.
هذا ما كنت عليه قبل أن تنحرف بوصلتي ومصيري الذي سلّمت قِيادَه لعائلتي، حين ضحّيت بعشقي الخالد لربيع خوفًا من أن يطاله أذاها. وقبل أن أفقد الكثير من نقاء سريرتي وصفاء الرؤية وسموّ حاجاتي عن الأطماع البشريّة، قبل أن أكبر وتعصرني الحياة، وتطحنني ماكينة عالمها كحوتٍ شرهٍ لا يبصر ضحاياه لضآلتهم، قبل أن أُستَنْزَف وأستَنفِدها سريعًا في عالم الكبار. تضاءلت عندها حواسّي وعجزت عن استكمال سبري لأغوارها وأغوار ذاتي المنهكة، التي عرّفتني فجأة إلى ما يُدعى الكراهية، كأبشع شعور ينتهك آدميّتي، تمنّيت لو مضت حياتي وأنا أجهله مهما كان الثمن فادحًا، ومهما قضيت من عمري أردّ الأذى عنّي إلى ذاتي المبالغ في غيريّتها، إذ كانت تنقذني من عذابات الشعور بالذنب والمشاعر السلبيّة التي لم أخض غمارها حينها إلّا بحدود ما ينفث حزني ليجدّد قدرتي على التسامح.
الآن أدرك مدى فظاعتها لحظة انتابتني واجتاحت عالمي المتسامح لأوّل مرة، فقد تسبّبت بأذيّتي أكثر من الأذى ذاته، وفاقمت كراهيتي لمن عرَّفني إلى هذا الشعور المقيت لأوّل مرّة. حينها لم تعد تجديني نفعًا حاسّتي ولا استبصاري اللذان حصّناني لزمنٍ ليس بقليل من انحراف بوصلتي، وأنا أبصر الانحدارات العاصفة ببوصلات مَن حولي، وقد بدأت الملامح الحيوانيّة الآخذة في التفشّي كوباء، تكتسح الوجوه والأطراف والأنياب.
ذات يوم أثقل عليَّ غضبي المستجدّ ممهّدًا لاكتشافي شعور الكراهية، تضاعف ضغطه على ذهني حين ومض حدسي، فأنهكني استدعاء جهدٍ مضاعفٍ في تركيزي لمحو تشويش تلك المشاعر العائقة له. وبدلًا من شحذ طاقتي لمحوها، استجمعت كلّ حواسّي في لحظة يأسٍ وإرهاق لمحو حدسي ورفض طاقة استبصاري واستغنائي عنها نهائيًا. واستوقفت رند عن استنطاقي ثانيةً وكففت حاجته لتفعيلها. والمفاجئ أنّها فعلًا انحسرت إلى أن تبخّرت تقريبًا، باستثناء تجلّيها في بعض الأحلام والومضات النادرة، لكنّها صاعقة بقوّة وضوحها وأحداثها التي أجهل كلّ ملابساتها، وقوّة تحقّقها بمجرّد استيقاظي كرؤية مقدّرة بيقين لا لبس في تحقّقه.
منذ ذاك اليوم وحياتي تسير على شفير هاوية لا قرار لها، ولا إمكانيّة لاستنباط ملامح قعرها الضبابيّ الأغوار، لاستيضاح أيّ حيوان يُفترض أن تؤول إليه تكويناتي في زمن التحوّلات المستشري هذا، وما كان هذا الافتراض واردًا في زمن مضى. فأنا محبّة عطوفة حتّى على الحيوانات المفترسة، أتعاطف مع حاجاتها وأشعر بإمكانيّة تواصلي العميق معها، أكثر من تواصلي وتعاطفي مع البشر. ولا يأتي استهجاني من تحيون البشر من احتقارٍ للأصول لا سمح الله، بل من فجيعتي بتراجع وارتداد البشر إلى الأصول بدل الارتقاء بالأصول إلى ما يتناسب مع حجم التطوّر الذي وصل البشر إليه! لا أدري إن كان من حسن طالعي أو من سوئه أن يستقرّ افتراض تحوّلي، لأصبح سمكة سلمون ستسبح عكس التيّار الجارف للأغلبيّة من حولها.
واحة الراهب
كاتبة ومخرجة وممثّلة سوريّة تحمل إجازة في الفنون الجميلة من جامعة دمشق، ودبلوم دراسات عليا في السينما من جامعة باريس الثامنة. حازت جوائز عديدة في المجال السينمائيّ والدراميّ، حيث مثّلت وأخرجت وكتبت سيناريوهات أفلام ومسلسلات، وشاركت في لجان تحكيم عدّة مهرجانات. لها كتاب بعنوان «صورة المرأة في السينما السوريّة» (2000)، ورواية بعنوان «مذكّرات روح منحوسة» (2017). هذه روايتها الثالثة عن دار نوفل بعد «الجنون طليقًا» (2019)، و«حاجز لكفن» (2020).