عماد مرمل – الجمهورية
قلَب الرئيس سعد الحريري الطاولة من داخل قصر بعبدا، ونفذ هجوما مضادا على رئيس الجمهورية ميشال عون من باحة القصر. هكذا، وبدلاً من ان يكون الاجتماع الـ18 بينهما فرصة للتفاهم تحوّل شرارة لمبارزة سياسية عنيفة بـ»السلاح الابيض»، نُقلت وقائعها مباشرة على الهواء!
لم ينم الحريري على «الضيم» اكثر من 24 ساعة، وهو كان يستعجل حلول موعد الاجتماع الجديد مع عون ليرد الصاع صاعين.
عندما وصلته امس ورقة عون ليملأ الفراغ بالكلمة المناسبة، استشاط الحريري غضباً بعدما شعر أن رئيس الجمهورية «زادها» في تجاوز صلاحيات الرئيس المكلف و»كرامته»، لكنه تمالك اعصابه الى حين المواجهة في اليوم التالي.
في الانتظار، رسم الحريري خلال الليل السيناريو الذي سينفذه في بعبدا: لقاء سريع مع عون لرد الاعتبار، وقنبلة سياسية على باب مكتبه.
غير انّ ما يعتبره الرئيس المكلف اعتداء مكشوفا على الاصول الدستورية ودوره في التشكيل، يضعه فريق قصر بعبدا في سياق التصدي المحق لمشروع الانقضاض على رئيس الجمهورية والتوازن الداخلي عبر حصان طروادة حكومي.
ومع الفشل الذريع لمحاولة التوفيق الإضافية بين الرجلين، صار واضحا ان الحريري ليس في وارد تكرار تجاربه السابقة حين كان يبادر الى تقديم التنازلات وإبرام التسويات من كيسه ورصيده في اعتباره «ام الصبي» كما كان يروّج. من هنا، يخوض معركته هذه المرة على اساس انّ النصر هو «صبر ساعة»، وان قدرته على الثبات أطول وقت ممكن ستصنع الفارق عن الحكومات السابقة التي ترأسها.
ويوحي الحريري انه سيبقى متمسّكاً بالمبادرة الفرنسية او ما تبقى منها، حتى لو حصل فرضاً ان تخلى عنها الفرنسيون. وبناء عليه، يصر على تشكيل حكومة اختصاصيين غير حزبيين وبلا ثلث معطل، مستندا تِبعاً للعارفين الى الأسباب الموجبة الآتية:
– ان تجربة الحكومات السياسية او التكنو سياسية خلال السنوات الماضية أثبتت عدم جدواها، بل هي التي ساهمت بتجاذباتها وخلافاتها في تعطيل الدولة واستنزافها وصولاً الى الانهيار، وبالتالي اذا كانت هي المشكلة كيف لها أن تصبح الحل؟
– ان الرئيس نبيه بري حليف «حزب الله»، يتمسّك بحكومة اختصاصيين غير حزبيين، كما ورد في بيان المكتب السياسي لحركة أمل، ما يعزز موقف الحريري.
– انّ المجتمع الدولي لن يساعد حكومة تشبه التركيبات السابقة ولن يدعم الّا تشكيلة تكنوقراط توحي بالثقة وقادرة على تحقيق الإصلاحات.
– ان الثلث المعطّل هو من طقوس مرحلة ما قبل التداعي، ولا يستقيم مع متطلبات تشكيل حكومة منتجة في هذه المرحلة المصيرية، «مَن ساواك بنفسه ما ظلمك»، فالحريري لا يريد ثلثا معطّلا كما لا يريده لغيره.
مقاربة بعبدا
وبعيداً من هذه التفسيرات التي تُحسن الظن في موقف الحريري، يسود القصر الجمهوري اقتناع بأنّ الرئيس المكلف يناور منذ فترة ويكثر من استعمال القنابل الدخانية للتغطية على حقيقة انه ليس جاهزاً بعد لتشكيل الحكومة وللقبول بالتسوية التي نادى بها رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط من بعبدا قبل أيام.
وعون المنفتح على تسوية تحت سقف الهامش الممكن، كما يؤكد المطلعون على موقفه، لا يبدي استعداداً للتنازل عن أي من الثوابت التي تستحق في رأيه الصمود حتى آخر نفس، خصوصاً انّ موقعه التفاوضي أصبح اكثر تماسكا وأوراقه الرابحة باتت أشد فعالية بعد خطاب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله وتعديل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي جنبلاط لتموضعه السياسي.
واذا كان عون لم يتراجع الى الخلف في اللحظات الأصعب حين كان شبه محاصر، فإنه لن يفعل ذلك الآن بعد شعوره بأنه استطاع الخروج من الزاوية الضيقة التي اراد الحريري ان يحشره فيها، بل لعل رئيس الجمهورية يفترض أنّ الرئيس المكلف هو الذي بات عالقاً في تلك الزاوية.
ولأنّ الظروف السياسية تغيرت في الفترة التي فصلت بين اجتماع الخميس الماضي ولقاء الأمس في بعبدا ربطاً برسائل نصرالله ومهادنة جنبلاط، فإنّ القصر الجمهوري كان يفترض بأن الحريري سيلتقط مغزى المستجدات وسيعتمد الواقعية والبراغماتية في مقاربة الملف الحكومي، لكنه فوجئ بأنّ الرئيس المكلف يواظب على ارتكاب الخطأ تلو الآخر، وأنه كلما اراد ان يصحح واحدا وقع في آخر أفدح منه.
والأشد غرابة، من منظار القصر، انّ الحريري يتصرف كأنه الغالب وأنّ الآخرين هم المغلوبون، متوهّماً ان ثورة 17 تشرين خرجت من «بيت الوسط» وان الثوار ينتمون الى تيار «المستقبل»، بينما الحقيقة هي ان رئيس تيار»المستقبل» كان المستهدف الأساسي من الانتفاضة الشعبية التي أسقطت حكومته أولاً.
وفي حين ترجّح إحدى الشخصيات القريبة من عون ان يكون الحريري قد استند في «استراتيجية الاستقواء» الى بعض الاشارات الدولية والاقليمية جرّاء استقباله المتكرر في هذه العاصمة او تلك، الا انها تنصحه بأن لا يبالغ في هذا النوع من الحسابات، لأن بعض الجهات الخارجية التي يتكئ عليها هي «فيل مخصي».
وتجزم الشخصية القريبة من بعبدا بأن باسيل لا يتدخل في تفاصيل التشكيل، وإنما هو أودع ورقته لدى عون الذي بات يملك في جعبته كل الأوراق الرابحة: دعم نصرالله، تفويض باسيل، مرونة جنبلاط، وقواعد الدستور.
وتلفت الى ان تجربة التفاوض الحالية أثبتت ان لا وجود لرئيس ظل في بعبدا، وأن زمام الأمور هي في حوزة عون الصلب لا المتصلب.
ولئن كانت جرعة الدعم التي تلقاها عون و»التيار الوطني الحر» من السيد نصرالله ليست مفاجئة (من دون أن يعني ذلك تخلّي «حزب الله» عن الحريري)، الا ان الأكيد هو انّ انفتاح جنبلاط المفاجئ على العهد فيما يخوض الحريري أشرس مواجهة مع عون إنما ازعج «بيت الوسط»، وإن حاول الإيحاء بعكس ذلك. صحيح انّ الحريري اصبح معتادا على مفاجآت جنبلاط، لكنه يعتبر انّ توقيت نقلته الأخيرة عشية الاجتماع الـ18 مع عون أضرّ به وسحب منه احد أوراقه القوية. ومع ان القريبين من جنبلاط يؤكدون انه لم ينفذ انقلابا على الحريري، بل اراد فقط إعطاء فرصة لخيار التسوية على قاعدة ان الاولوية في هذه المرحلة هي للجم الانهيار ومنع الانفجار، الّا ان هناك من يعتبر ان مجرد وقوفه في الوسط يعني عملياً انّ الرئيس المكلف فقد ظهيراً سياسياً كان حتى الأمس يدعم خياراته الحكومية ويهاجم العهد وتياره بعنف.
ويؤكد احد المطلعين على مجريات اللقاء الاخير بين عون وجنبلاط ان الليونة المستجدة لرئيس «الاشتراكي» لا تبلغ حدود الانقلاب في الموقف، بل هو أقرب إلى «إعادة انتشار» لربط النزاع او تنظيمه مرحليا مع عون، من دون أن يكون قد تخلى عن اقتناعاته السياسية المعروفة، «علماً ان جنبلاط يحترف عموما اللعب على حافة الهاوية ويعرف متى يغادرها قبل الانزلاق الى القعر، خصوصا بعد العبرة التي استقاها من تجربة أحداث 7 أيار الشهيرة».
وجنبلاط المسكون في هذه الايام بالهاجس الامني والاقتصادي يتصرف على أساس انّ أعداد الوزراء وبعض الشكليات المتعلقة بالحكومة لا تستحق كل هذا التصلب من الرئيس المكلف، وان المطلوب تبادل التنازلات من الجميع، قبل فوات الأوان ووقوع المحظور.