خلدون الشريف – البوست
لم يعش بلد ما عاشه لبنان من انخراط في لعبة الأمم ولم يخضع بلد لتجاذب إقليمي، كما خضع ويخضع لبنان، في إنتظار صياغة التفاهمات او التوافقات او الاتفاقات الكبرى. في الوقت الذي لا يستعجل فيه حزب الله تأليف حكومة في لبنان، في انتظار تبلور مسار مفاوضات فيينا، حيث لا يرغب بإفقاد إيران أي ورقة إقليمية، حتى لو كانت بحجم حكومة انقاذ في لبنان، يتبادل رئيس الجمهورية ميشال عون وجبران باسيل من جهة ورئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس المكلف سعد الحريري من جهة ثانية، الاتهامات التي لا تغني ولا تحل مشكلة طوابير الذل على محطات البنزين ولا تقارب مشكلة فقدان الدواء ومواد المختبرات وغلاء المواد الغذائية بشكل جنوني، ولا تلامس فقدان مواد طبية اساسية للمستشفيات والجراحة والتخدير والطبابة، فيما تغيب حكومة تصريف الأعمال غيابًا تامًا عن معالجة اي من المشاكل الآنفة الذكر اللهم الا بضع اجتماعات وبيانات ومؤتمرات تتنصل فيها من مسؤوليات قبلت ان تتحملها لحظة تأليفها قبل سنة ونيف.
التراجيديا اللبنانية يُؤرّخ لبداية “التراجيديا اللبنانية الحديثة” مع حديث وزير المال علي حسن خليل لجريدة “الأخبار” بتاريخ العاشر من شهر كانون الثاني/ يناير ٢٠١٩ حين أعلن عن خطّة قيد الإعداد في وزارة المال لإعادة هيكلة الدَّين العام تهدف الى تصحيح مالي طوعي من أجل تجنّب “التطورات الدراماتيكية” التي ستحصل إذا استمرّ النزف المالي على حاله خلال السنوات المقبلة، ما ادى الى هبوط أدوات الدين اللبنانية المقومة بالدولار وارتفاع العائد على السندات المستحقة في 2020 إلى نحو 13.3 في المئة. وفي آخر آب/ أغسطس ٢٠١٩، أقرت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على “جمّال ترست بنك” الذي يعتبر أقدم مصرف لبناني “محسوب على الطائفة الشيعية”، بعد إتهامه “بإخفاء نشاطات مالية لحزب الله”، بحسب بيان وزارة الخزانة الأميركية. بعد ذلك، بدأ التدحرج نحو قعر من دون قعر. مبادرة ماكرون توصيف الأحداث من لحظة انطلاق الاحتجاجات في ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩ الى استقالة حكومة الحريري تحت ضغط الشارع، فالفراغ الأول ثم ولادة حكومة حسان دياب قبل أن تستقيل بعيد انفجار مرفأ بيروت المشؤوم.. إلى تكليف مصطفى أديب وصولاً إلى إعادة تكليف الحريري، على وقع تدخل دولة عظمى على خط التأليف عبر مبادرة، ظنّ مُطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ان باستطاعته جمع الأميركي والإيراني على اجتراح حل لبلد تعتبره فرنسا الأقرب في الشرق اليها من جهة، ويساهم في ان يكون موطئ قدم لها في منطقة هائلة الثروات وشهية بالاستهلاك والاستثمار من جهة ثانية. اعتقد ماكرون ان قادة الأحزاب اللبنانية سيتجاوبون مع مبادرته لمحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه من اقتصادهم وماليتهم المدمرين، ما يشكل بالنسبة اليه قصة نجاح عالمية وللقادة السياسيين طوق نجاة لتفادي غرقهم في المستنقع السياسي.
إن أحدًا من اللاعبين المحليين لا يلتقي مع الآخر سواء من مكونات ما كان يسمى ١٤ اذار او ٨ اذار باستثناء الحلف الوحيد والثابت بين حزب الله وحركة امل، ما يُسهّل سقوط المنظومة السياسية والمالية والأمنية تحت سيطرة “الثنائي” نفسه إذا صح التعبير. من جهة، حزب الله يحمي ميشال عون وجبران باسيل، ومن جهة أخرى، لا أحد يتقدم على نبيه بري في توفير الحماية للحريري في 8 أيلول/ سبتمبر 2020، جاءت العقوبات الأميركية على كل من المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي علي حسن خليل والقيادي في تيار المردة يوسف فنيانوس لتنسف المبادرة الفرنسية وتُصلب “الثنائي الشيعي” في رفض المداورة وبالتالي التمسك بوزارة المال (حقيبة سيادية)، حتى تم إفراغ تلك المبادرة من مضمونها القائم على تأليف “حكومة مهمة” من إختصاصيين عمرها ستة أشهر، على أن يكون تولي الوزارات مداورة بين الطوائف.
نعم، طار مصطفى اديب وكُلّفَ سعد الحريري تأليف حكومة لن تؤلف في الأفق المنظور. لماذا؟ المنظومة.. وتحكم “الثنائي” يُمسك “الثنائي الشيعي”، بالتوافق والتضامن والتكافل والتناقض احيانًا بأطراف الصراع المحلي كافة. أصلًا أطراف الصراع المحلي غير متوافقين في ما بينهم، بل إن أحدًا من اللاعبين المحليين لا يلتقي مع الآخر سواء من مكونات ما كان يسمى ١٤ اذار او ٨ اذار باستثناء الحلف الوحيد والثابت والصلب بين حزب الله وحركة امل، ما يُسهّل سقوط المنظومة السياسية والمالية والأمنية تحت سيطرة “الثنائي” نفسه إذا صح التعبير. من جهة، حزب الله يحمي ميشال عون وجبران باسيل، ومن جهة أخرى، لا أحد يتقدم على نبيه بري في توفير الحماية للحريري! يكفي أن نقرأ ما قاله الحريري قبل اكثر من أسبوع كي نفهم التموضع الحالي: “إن سعد الحريري يعني نبيه بري، ونبيه بري يعني سعد الحريري”. قبل تصريحه هذا، استطاع الحريري ان يتحصن سنيًا عبر جملة خطوات فقد التقى عددًا من الوجوه السياسية السنية المعارضة له تاريخيًا، وجمع كتلته النيابية ثم التقى مفتي الجمهورية وحضر اجتماع المجلس الإسلامي الشرعي والتقى رؤساء الحكومات السابقين.
قرأ البعض بيان المجلس الشرعي على انه اصاب بسهامه المملكة العربية السعودية التي وان قصرت اليوم واشاحت بوجهها عن لبنان غير ان الموضوعية ومصلحة البلاد كانت تقتضي الإشارة الى دورها الداعم للبنان على الدوام والعمل على استدعاء حضورها عوضًا عن التلميح بالاستغناء، ما اثار استياءً سعوديًا بقي مكتومًا الى حد ما.
في المقابل، لا يخفي رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، تمسكهما بورقة التفاهم مع حزب الله برغم عتبهما عليه من خلال تكرار قول للإمام علي عند حديثهما عن تعاطي الحزب معهما: “المحايد خذل الحق ولم ينصر الباطل”. غير أن الخيارات امام كل من الحريري والمصطفين خلفه، كما امام جبران باسيل وفريقه ضيقة جدًا. إذ يعرف الحريري ومن خلفه انه لا يحظى بمباركة سعودية وان الحماسة العربية والفرنسية تراجعت الى حدٍ مؤثر وان الحديث عن بدائل في الأروقة الإقليمية والدولية جديٌ جدًا. ويعلم باسيل أيضاً أن الحصار المضروب عليه قاسٍ وغير قابل للكسر بسهولة وهو قد يأخذ بالتصاعد. بالتالي يدرك الاثنان حاجتهما لـ”الثنائي الشيعي” الذي يتوزع حمايتهما. “حزب الله” يخشى فوضى الشارع ويتجنبها بالتأكيد، في حين تكرر اوساط قريبة منه عدم حاجة إيران لتأخير او عدم تأليف حكومة في لبنان. وتعتبر تلك الأوساط ان اتفاقا بين مجموعة خمسة زائداً واحد وإيران لن يكون له اي أثر على لبنان وان لقاءات بغداد بين السعودية وإيران لم تتطرق للملف اللبناني وان التقارب بين الرياض ودمشق بدوره لن يحمل جديدًا للبنان. اين المعضلة اذًا؟ هذه المرة، قد يفضي إتفاق ما الى تأليف حكومة إذا ما حظي التأليف بمباركات عربية ايرانية فرنسية اميركية. وجمع المكونات الأربعة ليس سهلًا لكنه يبقى احتمالًا ضئيلًا صياغة العقد اللبناني تتركز المعضلة في شقها الداخلي باستهلاك النخبة السياسية لنفسها، فهي لم تعد قادرة على الاستقطاب، ولا على الاستفادة ماديًا وتوظيفيًا وحتى خدماتيًا لتعزيز شعبيتها مع بروز براعم لبدائل لم تنضج ثمارها، يضاف الى ذلك تصريح دولي وإقليمي بعدم الرغبة في التعاون مع تلك النخبة لا ماديًا ولا سياسيًا، ما يضع هذه النخبة امام حرب بقاء.
وتعود المشكلة الداخلية ايضًا الى رغبة اكيدة ولو مكتومة لدى حزب الله، بإعادة صياغة العقد السياسي اللبناني، وفق معايير جديدة يفوز فيها المنتصر بنفوذ أكبر ولو بعد حين، ما يستوجب اعترافًا دوليًا بضرورة وحتمية التفاوض معه من قبل القوى الكبرى التي قد تلتقي مع الحزب في لحظة تقاطع على التخلص من الطبقة الحاكمة تماًما كما تم التخلص من اغلب المكونات الحاكمة بعد الطائف. عندها، وكما تجري العادة في كل مكان، يمسك الأكثر تنظيمًا بناصية الحكم بعد ان كان قد امسك بناصية القرار. الخارج.. في الداخل في الشق الخارجي، وكما أسلفنا، ضربت ادارة دونالد ترامب أصل وروح المبادرة الفرنسية وكانت سياسة تلك الإدارة تقتضي تشديد الضغط المتواصل عكس الإدارة البايدنية الحالية الراغبة بتخفيف الضغوط دون وقفها ومنع الانهيار الكامل عبر تمويل المؤسسات العسكرية والأمنية وتمويل الغذاء والدواء ربما بعد حين، ما يطيل الأزمة ولا يساهم في استعجال الحلول.
فرنسياً، لم يعد للديبلوماسية الفرنسية ما تفعله وكانت آخر زيارة لوزير خارجية فرنسا تأنيبية أكثر منها سياسية على قاعدة “اللهم إشهد أني قد بلغت”. وتشير زيارة الممثل الاعلى للاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية والامن جوزيب بوريل إلى مواصلة الضغوط على لبنان، حيث ترجح مصادر أنّها الأخيرة قبل ترجمة العقوبات الأوروبية عملياً. عربيًا، تقف السعودية على مسافة بعيدة من لبنان وتجري مراجعة شاملة ويتردد في اروقة العارفين ان الرياض ومنذ اتفاق الطائف، موّلت تنفيذ الإتفاق ودفعت تكاليف باريس واحد واثنين وبعض تكاليف حرب تموز ٢٠٠٦ وقدمت في كانون الأول/ ديسمبر 2013 هبة بقيمة 3 مليارات دولار إشتملت على عقود أسلحة وذخائر فرنسية للجيش اللبناني (جرى تحويلها كلها لاحقاً لمصلحة حرب اليمن)، ثم قدمت هبة ثانية بقيمة مليار دولار لمصلحة قوى الأمن الداخلي.
كما موّلت جولتين إنتخابيتين (2005 و2009) وكانت النتيجة بعد عقود من الزمن شن حملات عليها من قبل عدد لا بأس به من ساسة البلاد، ولم يندرج بيان المجلس الشرعي الأخير إلا في السياق إياه. أما مصر، فإنها تحاول قدر طاقتها العمل على تجنيب لبنان الخراب عبر ايفاد ارفع دبلوماسييها واستمرار ارسال المساعدات حرصًا على وحدة البلاد واستقرارها. وبعد، كيف تتشكل حكومة لبنانية جديدة ضمن هذه المعطيات؟ المفاجآت محتملة ولو بنسبة ضئيلة جدًا، كأن يتفق اللاعبون على حلول مؤقتة كمعظم الحلول التي عاشها لبنان منذ عام 1958 وتكررت مع اتفاقات القاهرة (1968) والطائف (1989) والدوحة (2008) والتفاهم على ميشال عون رئيسًا للجمهورية (2016). هذه المرة، قد يفضي إتفاق ما الى تأليف حكومة إذا ما حظي التأليف بمباركات عربية ايرانية فرنسية اميركية. وجمع المكونات الأربعة ليس سهلًا لكنه يبقى احتمالًا ضئيلًا. في الخلاصة، يتعرض الشعب اللبناني لأكبر عملية قهر مترافقة مع تنكيل غير مسبوق برزق المواطن وودائعه وحريته وكذلك مع احباطات نفسية متلاحقة وعدم اكتراث دولي واقليمي غير مسبوق حتى تحل ساعة الحقيقة ويجلس المنتصرون ويوزعون النفوذ والسلطات.