سواء اختار أن يخرج بنفسه من الاشتباك الدائر بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي، أو أُخرِج منه، من الواضح أن الرئيس المكلف سعد الحريري بات فيه تفصيلاً ثانوياً، هامشياً هزيلاً، غير ذي أهمية. كأن لا وجود له في لعبة هي الآن بين أيدي مجرَّبين. كذلك تأليف الحكومة صار بلا أثر.

بين يدي حزب الله بوصلة فيها إبرة، لكنه لا يريد تحريكها ولا اختيار أيّ من اتجاهيها الحتميين: نحو عون أم نحو برّي؟ اعتاد الحزب محناً أصعب من هذه بكثير وأخطر وأكثر كلفة، قلّما دقت أبواب غرفة النوم. مشكلته اليوم هي في السرير حتى، وليس في غرفة النوم فحسب.
منذ عام 2005 يواجه صعاباً وتحديات: أوّل، بعد الانقلاب الذي أحدثه اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومغادرة سوريا لبنان نهائياً، وثان، بعد تداعيات حرب تموز – وكانت في مواجهة إسرائيل وليس الداخل – عندما اضطر إلى إقفال وسط بيروت وزَرَبَ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في السرايا، وثالث، عندما أُرغِم على الاحتكام إلى سلاحه في 7 أيار لإنقاذ شبكة اتصالاته، ورابع، عندما أطاح معادلة «س س» فأفضت إلى إسقاط حكومة الحريري فيما رئيسها في البيت الأبيض، وخامس، عندما قرر القتال في سوريا إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد بكل الأثمان الباهظة التي رافقته، وسادس، في تعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية ما بين عامَي 2014 و2016، ثم سابع وليس أخيراً يوم خاض حرب الجرود ضد التنظيمات الإرهابية في السلسلة الشرقية. معظم الأحداث هذه – إن لم يكن كلها – تسبّبت في تماس سنّي – شيعي لم يكن من السهل إطفاؤه.
ما يواجهه حزب الله اليوم مختلف تماماً. هو أشبه ما يكون أمام مرآة تفضح صورة خياراته إذا كان عليه أن يفعل.
لأن أولى أولوياته البيت الشيعي وحمايته كونه بيئته اللصيقة، يجد نفسه أمام المشكلة التي يريد تجنبها: لا يستغني عن رئيس الجمهورية حليفه القوي منذ عام 2006 وصاحب الغطاء المسيحي لسلاحه وصاحب العهد الذي أتاح لحزب الله أن يكون مرجعية فوق الدولة وأقوى منها، ولا يستغني حتماً عن توأمه في الثنائي الشيعي رئيس البرلمان في سبيل حماية أولى الأولويات تلك.
مقدار ما أعطى فائض القوة العسكرية الحزب سيطرته على الأرض، أعطاه برّي فائض القوة السياسية التي أدخلت البلاد في حقبة «الشيعية السياسية» للمرة الأولى. رغم الامتيازات الواسعة التي منحها السوريون للحزب إبان مرحلتهم، لم تنشأ حينذاك – كما الآن – ما يصح تسميته «الشيعية السياسية» التي أضحت المرجعية القاطعة في استقرارَي الداخل، سياسياً وأمنياً. من هنا صواب القول أن رئيس المجلس هو الأب الأول للعبارة تلك وللمثالثة السياسية، عندما أضحى طوال عقد التسعينيات المفاوض الشيعي الأول والشريك الفعلي في الحكم. شأن إفتاء الحزب في الأمن، يفتي برّي في السياسة.
ولأنها المشكلة، يشعر حزب الله بالإرباك الذي يحمله على البحث عن سبل إطفاء المواجهة بين عون وبرّي، دونما أن يصل إلى المفاضلة والاختيار ما بينهما.

لا يريد حزب الله خلافاً مع السُّنّة عبر الحريري، ولا كسر الجرة مع عون

ليس خافياً على حزب الله أن حليفيه، المفترض أن كلاً منهما هو حليف الحليف في الظاهر داخل صفوف قوى 8 آذار، صعبان، عنيدان، لا مكان عندهما للتساهل والليونة، ولا يستسلمان بسهولة، أضف امتلاكهما سلاح المفاجأة والصدمة. يحتاج إلى كليهما، فيما كان طوال سنوات العهد الحالي عازلاً ما بين الرجلين، ولم تكن المشكلات المباشرة بينهما، كما بين تياريهما قليلة الأثر، وكذلك الاحتكاكات. مذْ أصبحت الطريدة الثمينة – وهي الحريري في ظل قطيعة السعودية له وفقدانه معظم رصيده الإقليمي والدولي – بين يديه، لم يعد من مفر من اشتباك بين عون وبرّي انطلاقاً من اشتباك رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، سواء كان السبب تأليف الحكومة أو التذرع به لسبب آخر يضمره الرجلان.
أمام حزب الله الآن مشكلة مربكة ومقلقة، كانت في الأيام المنصرمة محور اجتماعات قيادته بين نصرالله ومعاونيه العاملين على خطَّي رئيسي الجمهورية (الممثل بالنائب جبران باسيل) والبرلمان. مشكلته هذه اثنتان متطلبتان وملحتان، ولا يسعه مقاربتهما بشغف بل بتحدٍّ جدي.
أولى، أنه لا يريد نزاعاً مع السنّة من خلال خلافه مع الحريري، الحليف المكتوم. شأن برّي، يشعر حزب الله بمسؤولية حياله. هما اللذان يحاولان إعادته إلى السلطة بعدما كان تخلى عنها لدى استقالته في تشرين الأول 2019، وكان أقرب ما يكون إلى ما رافق إسقاط حكومته عام 2011 عندما أُبعد عن الحكم فابتعد عن البلاد ثلاث سنوات. هما اللذان أمسكا بيده كي يُكلّف، ووفّرا له الغالبية المرجحة مع أن حزب الله لم يسمّه. هما أيضاً اللذان يمنعانه من الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة، ويعدان نفسيهما مسؤولين عن إبقائه في هذا الموقع. لا يحتملان أي انكسار له، شأن اعتذاره في أحسن الأحوال، وسيقاربانه على أنه انكسار لهما، لكن أيضاً أقرب ما يكون إلى إخلال أخلاقي لمجرد تركه يهوي.
وصولهما معه إلى واقع كهذا يعيد اضطراب الشارع السنّي الذي يحرّكه الحريري من حين إلى آخر، كما لو أنه جرس إنذار في مناطق تقلق الحزب كالبقاع الأوسط وطريق بيروت – الجنوب وعند كورنيش المزرعة خط التماس السنّي – الشيعي.
كان الحزب تلقّى رسائل سنّية واضحة الدلالة، في أوقات مختلفة، طمأنته إلى أن الخطر على لبنان يقيم في الاشتباك السنّي – الشيعي وليس في الاشتباك السنّي – الماروني، أو الإسلامي – المسيحي. للتباين الإسلامي – المسيحي، على مرّ حالاته التاريخية في النزاعات الداخلية، تسويات سياسية مرضية تهدئه، يفتقر الاشتباك السنّي – الشيعي إلى الوصول السهل إليها ما لم يمر بالعنف وبالشارع خصوصاً وأولاً.
ثانية، لا يريد الحزب كسر الجرة مع رئيس الجمهورية من خلال باسيل الذي يمثله في كل تفاوض، وبات هو المعنيّ السياسي المباشر بتأليف الحكومة، كما بوصول التأليف إلى المأزق. لا يريد إشعار الرئيس بالخذلان والتخلي عنه بعدما قدّم له الكثير، ولا يريد الخروج من تحالفهما المبرم في «تفاهم مار مخايل»، ولا يريد حتماً أن يكون مسؤولاً عن تقويض العهد وتحميله مسؤولية الانهيار الوشيك. لا يكتم الحزب انزعاجه من أصوات تعلو في تيار باسيل تنتقده بعنف، وتأخذ عليه إخلاله بالتحالف، ولا يسعه في الوقت نفسه التعامل مع ردود الفعل تلك على أنها منفصلة عن قيادة التيار، في أبسط الأحوال لا تُطلق بلا إيعاز، وبعضها لا يخلو من كلام قاتل حتى. بذلك يواجه الحزب وحليفه رئيس الجمهورية وحزبه مشكلة مزدوجة: إعادة الثقة إلى علاقتهما، وفي الوقت نفسه فرض مرجعيته الوحيدة في النزاع الناشب مع برّي.
عندما طالب باسيل نصرالله بالتحكيم بينه ورئيس المجلس، واستطراداً بينه والرئيس المكلف، تلقّف الحزب الرسالة بتوجّس، مفاده توجيه الإصبع إلى داخل البيت الشيعي، كما لو أن المطلوب من نصرالله الوصول إلى ما لا يريده: المفاضلة المستحيلة، المعروفة الجواب سلفاً.