ليس خافيًا على أحد أنّ الملفّ اللبنانيّ غاب عن “الأولويات” العربيّة في المرحلة الماضية، مع رصد “انكفاءٍ” دبلوماسيّ واسِع على خطّه، خصوصًا على المستوى الخليجيّ، في سياسةٍ لم تَخرُقْها سوى اعتبارات “التضامن الإنسانيّ” التي فرضتها تداعيات انفجار مرفأ بيروت المشؤوم والمُدمِّر في الرابع من آب الماضي.
وتجلّى هذا “الانكفاء” بأوضح حُلَلِه من خلال مغادرة العديد من السفراء العَرَب، ولا سيّما الخليجيّين، الأراضي اللبنانيّة خلال الأشهر القليلة الماضية، إما في “إجازاتٍ” بدت “مفتوحة” إلى حدّ بعيد، وإما لانتهاء فترة عملهم، مع تسجيل “مفارقة” عدم تعيين “بُدلاء” عنهم، في رسالةٍ بدت غير مشفَّرة، بل على النقيض، واضحة المغازي والدلالات.
ولا شكّ أنّ عوامل عديدة أسهمت في حصول هذا “الانكفاء”، ووفّرت للكثير من الدول عوامل ودوافع موضوعيّة تبرّره، وهي بمُجمَلها داخليّة، ولا يمكن حصرها بمواقف بعض الأحزاب أو الشخصيّات التي صُنِّفت “مسيئة” في بعض الجوانب للعلاقات اللبنانيّة-العربيّة، ولكن تتّصل قبل ذلك بطبيعة الأداء اللبنانيّ “المُرتَبِك”، وغياب الإرادة الجدّية بحلّ الأزمات المتفاقمة ذاتيًّا.
تغيّر نوعيّ
خلال اليومين الماضييْن، بدأ “تغيّرٌ نوعيّ” يُرصَد على خطّ المقاربات العربيّة للأزمة اللبنانيّة، فغاب “الانكفاء” ليحضر بديلًا عنه حراكٌ دبلوماسيّ لافِتٌ في عناوينه ومضامينه، ولو أنّه بقي محصورًا، حتى إثبات العكس، بطابعٍ استكشافيّ واستطلاعيّ، من دون أن تتّضِح أهدافه الكُبرى، وربما البعيدة المدى.
ولعلّ الزيارة التي يقوم بها نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن ال ثاني إلى لبنان اليوم، قد تكون خيرَ “تتويجٍ” لهذا المسار، وإن تباينت “التوقّعات” حول نتائجها، بين من وضعها في إطار “التضامن” الإنسانيّ والماليّ الضروريّ مع لبنان، ومن ذهب لحدّ التكهّن بمبادرةٍ قطريّةٍ جديدةٍ ستُفرزها، قد تكون “نسخة طبق الأصل” عن حوار الدوحة الذي أعقب أحداث السابع من أيار 2008، وأفرز “تسوية داخليّة” صمدت لسنوات.
إلا أنّ الحراك القطريّ المُستجِدّ لا يبدو “معزولًا” في الزمان والمكان، إذ يتزامن مع تحرّكٍ سعوديّ لافِت أيضًا، بدأ بلقاءٍ جمع السفير السعوديّ وليد البخاري خلال الساعات الماضية بنظيره الروسيّ، على أن يُستكمَل بسلسلة لقاءاتٍ دبلوماسيّة رفيعة المستوى، ستشمل في الساعات المقبلة السفيرتيْن الأميركيّة والفرنسيّة، وفقًا للمعلومات المتوافرة، التي تضعه في إطار الإصرار السعوديّ على تثبيت دعائم الأمن والاستقرار في لبنان.
“تكبير” حجم التفاؤل؟
يُضاف إلى الحراكيْن القطريّ والسعوديّ المُستجدَّيْن، حِراكٌ خلف الكواليس بدأ من مصر، خلال زيارة رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، ووصل إلى الإمارات، في ظلّ ما يُحكى عن “انفتاح” إماراتيّ على لبنان، من بوّابة المبادرة الفرنسيّة، وهو ما تعزّز في جولات الحريري الخارجيّة الأخيرة، والتي كانت أبو ظبي محطّة شبه “ثابتة” فيها.
ولعلّ أهمّ ما في هذا الحِراك، وفق ما يؤكّد عددٌ من العارفين، أنّه يتزامن مع حِراكٍ دوليّ متطوّر، أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باتصاله مع الرئيس الأميركيّ الجديد جو بايدن، والذي حضر لبنان ملفًّا أسياسيًّا على خطّه، علمًا أنّ ماكرون يستعِدّ لزيارةٍ إلى كلّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وفقًا للمعلومات، وإن لم يُحدَّد موعدها رسميًا بعد، في وقتٍ بدا أكيدًا أنّ لبنان سيكون طبقها “الدَّسِم” من دون مُنازِع.
وفي حين يحلو للكثيرين تكبير حجم “التفاؤل” انطلاقًا من رصد مثل هذا الحِراك، باعتبار أنّ مجرّد حضور لبنان في الكواليس العربيّة والدوليّة يُعَدّ ظاهرة إيجابيّة، وتعني وجود “توافق ضمنيّ” على منع “الانهيار”، يبقى الأكيد، وفق ما يقول المطّلعون على ما يجري في الكواليس، أنّ الكرة تبقى أولًا وأخيرًا في ملعب اللبنانيّين أنفسهم، فإما يوفّرون لأيّ حراكٍ المقوّمات اللازمة لينجح، وإمّا يجهضونه في مهده، ويبدّدون أيّ آمالٍ يمكن أن تُبنى عليه.
ليس غريبًا أن يراهن اللبنانيون على أيّ حراكٍ خارجيّ لحلّ أزماتهم، فقد سبق أن نجح هذا الخارج في تحقيق “المعجزات” بجمع المسؤولين اللبنانيّين لإيجاد “حلولٍ” كان يمكن أن يصنعوها بأنفسهم. لكنّ الأكيد، وسط كلّ ذلك، أنّ أيّ حلٍّ، سواء صُنِع في لبنان أو في الخارج، يتطلّب إرادةً داخليّة جدّية بالدرجة الأولى، متى انتفت، لا يعود لأيّ جهودٍ أيّ قيمةٍ أو جدوى…