لم أُعجب، في حياتي، بشخصيَّاتٍ كثيرة. لكنَّ موسى وهبه كان واحدًا من تلك الشَّخصيات. تتلمذت على يديه في الليسانس والماجستير والدكتوراه. الرحلة قاربت العقدين من السِّنين. وبقيت العلاقة قويَّةً حتى رحيله. والمفارقة أنّها ازدادت قوَّةً بعد وفاته.
ما الذي يشدُّ الإنسان الى موسى وهبه؟
لا شكَّ في أنَّ هدوءه وحكمته في حياته وكلاسيكيَّته في التَّفلسف أبرز ما كان يشدُّنا جميعًا إليه. كان فيلسوفًا حقًّا. وكانت الفلسفة كلَّ حياته. لم يجمع ثروةً فقد رحل عن الدنيا مدينًا. وكان اشترى بيته قبيل وفاته على الإسكان.
جميلٌ أن يعرف الإنسان فيلسوفًا؛ لأنَّ الفيلسوف لا يأتي في كلِّ مرَّة. ويكاد يكون تُحفةً نادرةً. إنّما الأجمل أن يعيش معه. وأشدّ جمالًا أن يعرف أنَّ من يعيش معه هو فيلسوفٌ حقًّا. فيكون بإمكانه أن ينتبه الى ما هو فلسفيٌّ فيه.
في الجلسة الأخيرة، جلسنا طويلًا منفَرديْن، قبيل وفاته بأربعةِ أشهر تحدثنا طويلًا. ونبَّهني الى ضرورة أن لا يتدخَّل الفيلسوف في عقائد النَّاس شرط أن يلتزموا الهدوء ولا يلجأوا الى العنف؛ لأنَّه ليس لدى الفيلسوف ما يقدِّمه لهم. والنَّاس بها حاجةٌ دائمًا إلى شيءٍ ما يتمسَّكون به. كان النَّاس كذلك وسيبقون كذلك. لذلك لم أجده، يومًا، يخوض في جدالات ميتافيزيقيَّة، حتى أنِّي لم أخض معه يومًا في نقاش حول العقيدة. صراحةً لم أكن أعرف إن كان يؤمن بالله أم لا. لم أسألْه قطُّ هذا السُّؤال، وإن كان بودِّي أن أسأله. حال المرض أخيرًا دون كثيرٍ من الأسئلة. من طريف ما قاله لي، روايته عن جدَّته التي كانت تصوم مع المسيحيّين، وعندما يأتي شهر رمضان تصوم مع المسلمين. كان يروي لي الحكاية ولم يكن مستغرِبًا أو مستنكِرًا. المهمّ عنده أن لا نلجأ الى العنف بسبب الاختلاف في العقيدة.
عشتُ معه طالبًا. صادقته كثيرًا وطويلًا. لكنِّي، والحقُّ يُقال، وما زلت أعيش معه بشكلٍ أغنى وأقوى، لكن من خلال نصوصه التي كنت أعرفها بعضها ونصوصِه الأخرى التي تعرَّفت إليها بعد رحيله. فأنا أتعرَّفُ إليه وأعيشُ معه دائمًا.
تبيَّن لي من خلال نصوصه أنَّه كان أغنى وأعمق ممَّا كنت أعتقد. تحلو الكتابة مع الفيلسوف، تحلو الكتابة مع موسى. بل وتحلو الكتابة عنه. ما يُميِّز نصوصه أنَّها كانت رائعةً بأسلوبها عميقةً بمضمونها.
الفلسفة عنده طريقةٌ معيَّنة ومختلفة في التَّفكير. تحاول الإجابة بما تيسَّر لها، عن أسئلة العقل بما هو كذلك، عن أسئلة العقل التي يطرحها بطبيعته والتي هي مصدر قلقِه وانهمامه. تُحاول الإجابة عبر مجموعة من الفروض المضْمرةِ أو الصَّريحة وعبر اختراع مجموعةٍ من الأفاهيم من أجل الوصول إلى راحةِ العقل، ولو بصورةٍ موقَّتةٍ.
نحتاجُ الى موسى وهبه، نحتاج إلى الفلسفة، نحتاج إلى شيءٍ من كانط، نحتاج الى شيءٍ من كانط بنكهةِ وهبه، وموسى وهبه كان كانط عصره بلا منازع.
(*) مدونة نشرها الكاتب جمال نعيم في صفحته الفايسبوكية