كتبت راجانا جميّة في “الأخبار”:
لا تنتهي الحروب بانتهاء الأعمال العسكرية، إذ غالباً ما تبقى آثارها ماثلة لسنواتٍ طويلة مع المعاناة التي يعيشها الجرحى الذين غالباً ما يحتاجون إلى الكثير من الدعم الصحي والنفسي قبل الوصول إلى مرحلة التعافي. حرب تموز 2006 واحدة من الحروب التي لم تنته تداعياتها عند حدود أيامها الـ33، بل استمرت بالنسبة إلى 4400 جريح سنواتٍ طويلة، أوصلت كثراً منهم إلى الإعاقة الدائمة. ورغم تلك التداعيات – المكلفة دائماً – لا يبدو أن أحداً يلتفت إلى تلك المعاناة، تحديداً على صعيد النظم الصحية والاجتماعية القاصرة عن متابعة شؤون هؤلاء الذين يُتركون لمصيرهم، مع انتهاء دور معظم المؤسسات الصحية في الغالب عقب الجولة الأولى من العلاج والخروج من المستشفى.
هذه واحدة من الخلاصات التي توصّلت إليها دراسة مجموعة من الأطباء حول «خصائص الإصابات أثناء حرب لبنان عام 2006: دراسة لأحوال الناجين بعد مرور 16 عاماً على الحرب»، استناداً إلى سجلّات 341 جريحاً عولجوا في ثلاثة مراكز استشفائية. وهدفت الدراسة التي صدرت أخيراً في المجلة العلمية «pubmed»، وأُجريت بين أيلول 2020 وتشرين الأول 2022 إلى تقييم العبء الطويل الأمد للإصابات الناجمة عن حرب لبنان بين المدنيين من خلال تحليل خصائص الإصابة وأنماطها، إضافة إلى تقييم العلاجات الجراحية التي قُدّمت لهؤلاء.
ورغم وصول عدد جرحى حرب تموز إلى ما يفوق الـ 4000 جريح، إلا أن اختزال العينة بـ341 ناجياً مردّه إلى عاملين أساسيين، أولهما أن غالبية المستشفيات إما تخلّصت من السجلّات الطبية لهؤلاء وإما لعدم رغبتها في المشاركة، وثانيهما هو اختيار المراكز الصحية التي استقبلت عدداً لا بأس به من الجرحى، ولذلك وقع الخيار على ثلاثة مراكز، اثنان منهما استقبلا غالبية الجرحى من الجنوب وواحد كانت غالبية الجرحى فيه من منطقة بعلبك ـــ الهرمل.
وبيّنت الدراسة أن غالبية المصابين من الذكور (ثلثان إلى ثلث من النساء) وضمن الشريحة العمرية بين 18 و39 عاماً، أي إن معظم المصابين كانوا ضمن فئة «العمال المنتجين»، ما شكّل عبئاً اقتصادياً على عائلاتهم، ولا سيما أن عدداً منهم كان غير قادر على العودة إلى العمل لحاجته إلى متابعة صحية طويلة، ما جعل العبء مزدوجاً، لناحية الحاجة إلى مصدر يوفّر دعماً للعائلة وآخر يؤمّن استمرارية العلاج.
وفي ما يتعلق بأنواع الإصابات فإنها في مجملها متعددة، بحيث لا تطاول مكاناً واحداً، وإنما تطاول أمكنة متعددة في الجسم، وهو ما يراه الأطباء في الحرب الحالية الدائرة مع العدو اليوم، وما رأوه ويرونه في غزة. ويوضح الطبيب الجراح غسان أبو ستة، وهو أحد المشاركين في الدراسة، أن الإصابات إما تكون تهشّماً في الجسم ناتجاً عن سقوط الركام فوق الناس وإما حروقاً وجروحاً بسبب كرات اللهب، وإما كسوراً وجروحاً بسبب الشظايا. وسجّلت الدراسة أن «النوع» الأكثر شيوعاً من الإصابات، إصابة الأطراف السفلية (25.5%) ومن ثم الرأس والعنق (24.9%) والأطراف العلوية (23.5%) ومن ثم الإصابات المتعددة في أماكن غير محددة في الجسم (19.1%) ومن بعدها إصابات الصدر (12%). وقد لوحظت أنواع الإصابات تلك، وتحديداً في الأطراف والرأس والرقبة، في معظم أماكن النزاعات مثل العراق وأفغانستان والحروب التي شنّها العدو على لبنان.
أما بالنسبة إلى التدخلات الطبية، فقد كانت مقسّمة بين تدخلات أساسية من ناحية تضميد الجروح وجبر الكسور وإجراء الصور، إضافة إلى التدخلات المعقّدة من خلال إجراء العمليات الجراحية المعقّدة. أما بالنسبة إلى أيام الإقامة، فقد اختلفت بين مستشفى وآخر كما اختلفت الكلفة التي كانت محكومة «بالحاجة إلى الإقامة مثلاً في غرف العناية والحاجة إلى العلاجات ومنها العمليات الجراحية ومن ثم المتابعة في ما بعد»، وكانت غالبية تلك الكلفة على حساب وزارة الصحة العامة (95.5%).
النظم الرعائية المفقودة
لكن، ما الذي يحصل بعد الخروج من المستشفى والتعافي الجزئي؟
تفتح الدراسة الباب واسعاً على أنظمة رعاية غائبة، إن لم تكن مفقودة. فغالباً ما تتوقف متابعة جرحى الحروب عند التدخلات الأولى ونادراً ما تستمر. وفي الغالب، يحتاج جرحى الحروب إلى «ما لا يقل عن 9 إلى 12 تدخلاً جراحياً»، بحسب أبو ستة. وهنا تكمن المعاناة، فعدا الأكلاف التي يتكبّدها المصابون نظراً إلى أن تكفّل وزارة الصحة بمتابعة جرحى الحروب ينتهي في مكانٍ ما، هناك الأعطاب التي تلحق بهؤلاء وتخرجهم من دورة العمل بشكلٍ نهائي أحياناً، إضافة إلى الأعطاب النفسية، إذ تبيّن الدراسات انتشار الاكتئاب والضيق والقلق بين المصابين بنسبة 74%. وخلصت الدراسة إلى «ضرورة تقديم علاج شامل وطويل الأجل للضحايا يلبي حاجاتهم الجسدية والنفسية معاً، إما من خلال تنفيذ برامج إعادة تأهيل أو سنّ قوانين». كما بيّنت العمليات الجراحية ضرورة «وجود فريق طبي متعدد التخصصات قادر على العمل بفعالية في البيئات المنخفضة الموارد»، والأهم من ذلك أن تلك الحرب أبرزت «الطب العام باعتباره التخصص الأكثر طلباً، يليه طب العظام، وأمراض الرئة، والجراحة العامة، ما يسلط الضوء على الطلب على التخصصات المختلفة في إدارة مثل هذه الحالات». وإذ أظهرت الدراسات درجة عالية من الاستعداد في المستشفيات اللبنانية «إلا أنه لا تزال هناك أوجه قصور خطيرة، تشمل عدم كفاية وحدة العناية المركّزة والقدرة على التدخل، فضلاً عن الافتقار إلى هياكل القيادة الواضحة والتنسيق بين المستشفيات ووكالات الخدمات الطبية الطارئة». وحتى مع إنشاء وحدة إدارة مخاطر الكوارث بعد حرب عام 2006، إلا أنها أثبتت بعد التجربة «عدم كفاءتها وتجلّى ذلك خلال انفجار بيروت عام 2020، ما كشف عن أوجه القصور الحكومية في إدارة الأزمات». أما الأهم من ذلك كله، فهو افتقار لبنان حالياً إلى سجلّ وطني إلكتروني مع إجراءات موحّدة لإدخال البيانات، بما يسهم في تحديد الثغرات في أنظمة الرعاية الصحية، وتوجيه ممارسات الرعاية.
تفتح هذه العناوين الباب على النظام الصحي اللبناني، فرغم «أننا دولة مرت وتمرّ بالكثير من الأزمات، إلا أنه لا يوجد لدينا دائماً خطة طوارئ تحاكي الواقع وتطبّق بما يتماشى مع احتياجات معينة للمصابين، وتحديداً أولئك الذين يعانون من إصابات طويلة الأمد»، يقول الدكتور فادي الجردلي، رئيس «مركز ترشيد السياسات» في الجامعة الأميركية في بيروت. وهذا يعني انعدام وجود «نظام رصد وتقييم لكي نطّلع على المضاعفات التي تتسبب بها الإصابات، حيث إنه في الوقت نفسه لا يزال المريض يدفع كلفة علاجه من جيبه». المشكلة في النظام القائم أنه لا يتماشى مع الحروب «حيث تكون الحاجة إلى المتابعة أكبر بعد الحرب، مع حاجة المصاب إلى الكثير من التدخلات وغالباً ما تكون مكلفة». ويضاف إلى ذلك المشكلة التي تطرأ بعد الحرب «في جودة الخدمات والتي لها علاقة بأين يذهب المريض؟ خصوصاً أن معظم هؤلاء ينتقلون من مستشفى إلى آخر بحثاً عن كلفة أقل، وهذا يكون باجتهاد شخصي من المريض بسبب غياب المتابعة له». يضاف إلى ذلك انعدام التواصل بين المؤسسات الاستشفائية، «إذ لا يوجد ربط بينها، ولو أن هناك ربطاً للسجلّات والملفات لكانت الكلفة أخف، لناحية تخفيف كمية الفحوصات والتدخلات ويصبح هناك تكامل في التقديمات الطبية ومتابعة لسجلّات كل المرضى». ولذلك، بحسب الجردلي، «لازم نتعلّم هالمرة» على قاعدة العمل ضمن «طريقة ممنهجة أكثر للمتابعة والدعم وإقامة مرصد، خصوصاً أن العبء اليوم مختلف جداً وكذلك الاحتياجات لأن من حق المواطن الذي تأثّر أن يسأل عن أمرين أساسيين: الأمان الصحي ومن ثم الاجتماعي»، وهذا يفرض السؤال عن نظام للرعاية الشاملة يكون على أساس الحاجات لا المحاصصات.