ليا القزي – الاخبار
يُريد مصرف لبنان التوقّف عن دعم استيراد الدواء، والقمح، وبعض المواد الغذائية والمشتقات النفطية بحسب سعر صرف 1500 ليرة لكلّ دولار. يزعم الحاكم رياض سلامة أنّه لا يستطيع التصرّف بأكثر من 800 مليون دولار، رامياً بالمسؤولية على الحكومة لتجد الحلّ. ليس لبنان وحيداً في طرح إشكالية سياسة الدعم، علماً بأن ما هو قائم اليوم ليس دعماً. الدعم يكون، في العادة، من خزينة الدولة، لخفض الأسعار للمستهلكين. أما ما يجري حالياً، فهو الالتزام بالسعر الرسمي للدولار، عند استيراد السلع التي تُسمى «مدعومة». ليس هذا النوع من «الدعم» هو ما «تتميّز» به الدولة اللبنانية في العالم. فهي تكاد «تنفرد»، أيضاً، بالإقدام على إلغاء الدعم من دون إيجاد أي بدائل للسكان، وتحديداً الفئات الأكثر حاجةً إليه. في معظم الدول، حتى تلك الفقيرة وتُعاني من شحّ في الموارد وتتعرّض لضغوط سياسية، لم يُترك السكان في العراء، بل أمّنت لهم حكوماتهم دعماً، ولو بحدّه الأدنى. قد تكون آليات توزيع الدعم في تلك الدول سيّئة. لكنها في النهاية تضمن وصوله إلى الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
كلّما تراجعت مؤشرات اقتصادية في بلد ما، يُقَدَّم الدعم الاجتماعي كأولى الضحايا، كما لو أنّه هو المسؤول عن عجز الميزانيات الحكومية. وفي التصويب على الدعم دلالات عديدة، أبرزها أنّ صندوق النقد الدولي والدول «المانحة» التي تُقدّم لائحة شروط للحكومات المُتعثّرة مُقابل إقراضها المال، تضع إلغاء الدعم على رأس الأولويات. بالنسبة إلى صنّاع القرار العالميين، أولوية تطور الناتج المحلّي الإجمالي وتخفيض العجز في الميزانيات تتقدّم على ما عداها، حتى ولو كانت القدرات الاستهلاكية للسكان وتأمين الحماية الاجتماعية لهم.
«زيادة أسعار السلع الأساسية والمنتجات النفطية يُمكن أن تترافق مع خسائر في دخل الفقراء وحصول اضطرابات سياسية»، كما جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي سنة 2000. درس التقرير حالة 23 بلداً قامت بـ«إصلاح» الدعم، فتبيّن أنّ أكثريتها اختارت رفع الدعم التدريجي، «بسبب غياب البيئة السياسية والاقتصادية المؤاتية». أما لماذا خيار رفع الدعم؟ فبهدف رئيسي «وهو تحقيق وفر مالي ولضبط أسعار الصرف». اللافت أنّ الوكالة الدولية للطاقة وجدت أن لرفع الدعم (عن المشتقات النفطية) وزيادة الأسعار «تأثيراً سلبياً على الاقتصاد الكُلّي للدولة، فينخفض معدّل الإنتاج ويرتفع معدّل الأسعار، ويتراجع معدّل النمو الكلّي للدولة على المدى الطويل». لذلك، ينصح صندوق النقد في تقريره أن «تُصارح» الحكومات شعوبها، شارحةً لهم أسباب رفع الدعم وآثاره الاقتصادية، إضافة إلى استباق ذلك بتوفير أدوات الحماية الاجتماعية. الأردن، مصر، نيجيريا، تركيا، البرازيل، دول استجابت لشروط «المجتمع الغربي» بإلغاء الدعم لقاء «منافع» اقتصادية وسياسية. لكن يبقى أن المشترك بين غالبيتها أنها أمّنت حداً أدنى من الحماية للسكان. وفي بعض الحالات، استمرّت الحكومات في إقرار برامج جديدة للدعم. في ما يلي، مُختصر عن تجارب تلك الدول.
الأردن: رفع الدعم استجابة لصندوق النقد
منذ التسعينيات، والأردن يُحاول تقليص الدعم على المواد الرئيسية، ليواجَه في كلّ مرة بمعارضة شعبية، وصولاً إلى إسقاط حكومات. رفع الدعم في الأردن، كما في بُلدانٍ عديدة، شكّل مطلباً أساسياً من مطالب صندوق النقد الدولي.
عام 1989، حاولت الحكومة زيادة أسعار الوقود، ما أدّى إلى اندلاع تظاهرت أدّت إلى إسقاط الحكومة. وعام 1996، تظاهر الأردنيون ردّاً على قرار زيادة أسعار الخبز بنسبة 200%، في الوقت نفسه الذي كان فيه المواطنون يُعانون من ظروف اقتصادية صعبة، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5%.
قبل سنوات، ألغت الحكومة الدعم عن أسعار النفط، مُستبدلةً إيّاه بدعم نقدي مُباشر لفئة من المواطنين، وقد وضعت آلية تقوم على إعادة توجيه الدعم للطبقات الفقيرة في حال تجاوز سعر برميل النفط 100 دولار أميركي، مُبقية على الدعم لغاز المنازل والكهرباء. بالنسبة إلى السلع الغذائية، فقد خُفّضت الإعفاءات الضريبية لمعظمها، باستثناء بعض المواد الغذائية الأساسية والأدوية.
أما الدعم الأكثر «حساسية» في الأردن، فهو دعم الطحين. عام 2018، قرّرت الحكومة استبدال الدعم بتقديم دعم نقدي بقيمة 241 مليون دولار لنحو 6.2 ملايين أردني ولاجئ فلسطيني، تُدفع من خلال بطاقة إلكترونية. سُوِّق للمشروع على أنّه لـ«تخفيف الهدر» والسوق السوداء للطحين المدعوم، ولكنه فعلياً كان استجابةً لطلبات صندوق النقد، مع توقعات بتحقيق وفر في الخزينة يصل إلى 106 ملايين دولار. بعد يومين من تطبيق القرار، وارتفاع سعر الخبز بنسبة 100%، انخفض استهلاكه بنسبة 50%. وبعد قرابة سنتين، لم تتمكن الحكومة من تخفيض فاتورة الدعم، معلنة أنّها تُقدّم 241 مليون دولار سنوياً دعماً للمواطنين، وتتحمّل الخزينة فروقات ارتفاع كلفة إنتاج الخبز وأسعار الطحين عالمياً، بقيمة 141 مليون دولار. هذا العام، وبسبب العجز المالي نتيجة انتشار «كورونا»، تبحث الحكومة في تغيير طريقة الدعم على الطحين.
مصر: شطب مُستفيدين من لوائح الدعم الحكومي
عامَي 1977 و2016، فرض صندوق النقد الدولي على مصر رفع الدعم عن المواد الرئيسية لقاء إقراضها، وفي المرتين استجابت الحكومة المصرية للشروط. الانتفاضة الشعبية سنة 1977 ألغت قرار خفض الدعم لأسعار الخبز والشاي والأرزّ والسكر واللحوم وسلع أخرى لأكثر من النصف. «تعلّمت» الحكومة من «الدرس»، فقرّرت سنة 1982 تطبيق خفض الدعم بتدرّج: تخفيض تدريجي للسلع المدعومة، تحرير سعر صرف العملة، تطبيق قانون الضريبة على القيمة المُضافة، غربلة المُستفيدين من بطاقات التموين وتقسيمهم إلى قسمين بين من «يستحق» دعماً شاملاً ومن ينال دعماً جُزئياً.
فباتت السياسة الاجتماعية في مصر تنقسم بين دعم الغذاء ووجود برنامج للمساعدة الاجتماعية يعتبره الخبراء «غير كافٍ لتلبية الاحتياجات». وكانت الأسعار ترتفع من دون أن تواكبها زيادة التقديمات الاجتماعية، ما انعكس سلباً على القدرات الاستهلاكية للمواطنين، وارتفعت نسبة التضخّم.
عام 2016، امتثل عبد الفتّاح السيسي لشروط صندوق النقد بإلغاء الدعم عن عدد من السلع، وأبرزها الوقود والغاز. فارتفعت الأسعار خمسة أضعاف في غضون خمس سنوات، وجرى ربطها بالأسعار العالمية، لكن تأجّل رفع الدعم نهائياً إلى العام 2024- 2025، بعد أن كان مُحدّداً في الـ2021-2022 بسبب انتشار «كورونا». آخر الزيادات لأسعار الوقود والغاز المنزلي أُقرّت في الـ2019، وراوحت بين 16% و30%، بالتزامن مع شطب قرابة 8 ملايين شخص من لائحة دعم الغذاء، ورفض تسجيل أي شخص جديد على اللائحة لأي أسرة تتكوّن من أربعة أفراد وما فوق.
تركيا: إعفاءات ضريبية ودعم للتوظيف
لم يكن «سيف» صندوق النقد الدولي هو المُصلت فوق تركيا في الثمانينيات حين قرّرت «تحرير» اقتصادها، بل كان همّ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فبدأ «إصلاح» قطاع النفط. كان ذلك وسيلة الحكومة أيضاً لتحسين المالية العامة، فصدر سنة 1989 قانون سمح للشركات بتحديد الأسعار، وبدأت عام 1990 خصخصة الشركات العامة، لتكتمل بعد 15 عاماً. تزامن ذلك مع وضع شبكة للأمان الاجتماعي، وإقرار الإعفاء الضريبي لاستهلاك الغاز النفطي المُسال، فأصبح سعره أقل مقارنة بالبنزين والديزل، بهدف تشجيع الناس على استخدامه، كما أُقرّ الإعفاء الضريبي لوسائل لنقل العام، ومنح خصم ضريبي للديزل المُستخدم في الزراعة.
وبحسب أرقام «World Data»، فقد ازداد الدعم الحكومي العام في تركيا بين عامي 2015 و2020، بمعدل نمو سنوي متوسط بلغ 11.66%. ولكنّ الدعم الحكومي والنمو الاقتصادي في تركيا لم يؤدّيا إلى انخفاض مُعدّلات البطالة، فقرّرت الدولة في الـ2017 دعم برنامج للتوظيف. وقد غطّى الدعم جميع مدفوعات الضمان الاجتماعي لأصحاب الحدّ الأدنى من الأجور، لتشجيع الشركات على التوظيف، ومن المفترض أن ينتهي البرنامج في نهاية الـ2020.
نيجيريا: زيادة الأسعار… والأجور
النفط هو المصدر الأول للإيرادات الحكومية في نيجيريا، التي تُنتج مصافيها الأربع نحو 13 مليون ليتر، ولكنّها تستورد 17 مليون ليتر لتغطية الطلب اليومي. تدعم الحكومة الوقود، ما أدّى إلى توسيع الفارق في الأسعار بين نيجيريا ودول الجوار بحدود الـ700%، ما نشّط عمليات التهريب.
في تقرير لصندوق النقد الدولي صادر عام 2000، يرد أنّ الحكومة زادت أسعار البنزين بنسبة 50%، «بالتزامن مع رفع الحدّ الأدنى للأجور». لم يمنع ذلك من اندلاع احتجاجات عملية وطلابية في المُدن الكبرى بسبب غياب شبكات الأمان الاجتماعي، ما دفع الحكومة إلى زيادة الأسعار بنسبة 10% فقط. وسنة 2012، وفي إطار خطة «إصلاح اقتصادي شامل»، ضاعفت الحكومة أسعار الوقود في نيجيريا، فنفّذ سائقو السيارات والنقابيون احتجاجات. «هل إلغاء الدعم يؤذي الفقراء؟»، سألت دراسة تحليلية لـ«المعهد الأفريقي للاقتصاد»، وجدت أنّ ارتفاع الأسعار أدّى إلى تباطؤ نمو الدخل القومي، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بسبب انخفاض الأنشطة الاقتصادية واستهلاك الأسر التي تآكلت مداخيلها، وتراجع إيرادات الضرائب الحكومية.
سنة 2017، خصّصت الحكومة النيجيرية 500 مليون دولار من ضمن برنامج الحماية الاجتماعية، ولكنّ المشكلة كانت في غياب قاعدة البيانات، وبالتالي عدم معرفة لمن يجب أن تُوزّع المُساعدات النقدية.
زيادة أسعار الوقود دورياً، سياسة متّبعة دائماً في بلد تغيب عنه الخدمات الأساسية للمواطنين. في أيلول 2020، ارتفعت الأسعار بشكل كبير مع قرار الحكومة إلغاء دعم المحروقات، مُعلنةً تقديم 648 مليون دولار لتحفيز المواطنين على استخدام الغاز، كبديل من البنزين. وقد برّر رئيس الجمهورية الأمر بأنّه «ليس لدينا خيار إذا أردنا تخصيص الأموال اللازمة للصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى». قرار رفع الدعم كان قرار «المانحين الدوليين» الذين يُروّجون أنّه «الحلّ» لتصحيح ميزانية نيجيريا.
البرازيل: إلغاء الدعم تدريجياً منعاً للاضطرابات السياسية
حين تسلّم فرناندو كاردوسو الرئاسة في البرازيل عام 1995، وضع خطة عُرفت بـ«الريال»، مُتبنياً سياسة «الانفتاح الاقتصادي» عبر تنفيذ «توجيهات» البنك الدولي وصندوق النقد. بدأ الإعداد لإلغاء الدعم، وتحديداً على أسعار الوقود، ولكنّ الحكومة قرّرت تنفيذ القرار تدريجياً لامتصاص أي ردّ فعل مُعارض، فبدأت بتحرير أسعار المُنتجات النفطية للشركات، ثمّ بنزين المُستهلكين، بعدها الغاز النفطي المُسال، والديزل. عام 2002، كانت أسعار المنتجات كافة قد حُرّرت، وأصبحت أعلى من مُعدّلاتها العالمية، ما زاد من الضغوط على العملة المحلية. أما في منطقة الأمازون، فقد أبقت الحكومة على دعم الوقود لمحطات الطاقة الحرارية حتى 2012 خوفاً من الاضطرابات السياسية.
يُشير تقرير لصندوق النقد الدولي صادر في الـ2013، إلى أنّ تحرير الأسعار اقترن بارتفاع التضخم في البرازيل، فاعتمدت الحكومة «نظام كوبونات الغاز لتعويض الأسر المنخفضة الدخل عن الزيادة في أسعار الغاز، ولاحقاً اعتمدت برنامج التحويلات النقدية المشروطة». في الـ2004، ألغت الضرائب على الغاز المُسال وزيت الوقود «لتثبيت الأسعار وتخفيفها على المُستهلكين».
مع فوز لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا بالرئاسة، بدأ تركيزه على وضع سياسة اجتماعية، فرُبط الحدّ الأدنى للأجور بمعدّل التضخم، وطُبّقت سياسة الضمان الاجتماعي لـ90% من السكان الذين تجاوزت أعمارهم الـ65 سنة، وقُدّم الدعم النقدي للأسر التي يقل مدخولها عن 28 دولاراً شهرياً، فحصلت على دعم 87 دولاراً شهريا (كانت تُعادل 40% من الحد الأدنى للأجور)، مع اشتراط إرسال الأولاد إلى المدرسة. كما اعتمدت الحكومة «برنامج اقتناء الغذاء»، القائم على شراء المنتجات من المزارعين الصغار.
قبل أشهر، أعلن الرئيس الحالي جايير بولسونارو أنّ «الإعانات المقدمة للفئات الأشد فقراً، الغوغائيين والشيوعيين، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد»، بالتزامن مع رغبته في دعم فاتورة الكهرباء… للكنائس.