كتب محمد شقير في “الشرق الأوسط”:
دخلت مشاورات تأليف الحكومة الجديدة في غيبوبة قاتلة بعد أن تعذّر على السفيرة الفرنسية لدى لبنان آن غريو إقناع رئيس الجمهورية ميشال عون بضرورة تنعيم موقفه ورفع شروطه التي لا تزال تعيق ولادتها، رغم أن موجة الاحتجاجات على تردّي الأوضاع المعيشية والاجتماعية بلغت ذروتها ليل أول من أمس، وسجّلت مشاركة شعبية واسعة تكاد تكون الأكبر منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية ضد الطبقة السياسية في 17 تشرين الأول 2019.
فالاشتباك السياسي الذي يؤخّر تشكيل الحكومة سرعان ما تمدّد إلى اشتباك اجتماعي لم يتأثر بتعدد الساحات السياسية التي انقسمت بين مؤيد لمطالبة البطريرك الماروني بشارة الراعي بحياد لبنان الإيجابي عن الصراعات الدائرة في المنطقة، وبعقد مؤتمر دولي خاص به برعاية الأمم المتحدة لإنقاذه من الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق مع تخطي سعر صرف الدولار العشرة آلاف ليرة وبين معارض لمطالبته، من دون أن تبدّل معاودة الحوار المرتقب بين بكركي و«حزب الله» من واقع الحال القائم، لأنه إذا استؤنف قريباً فلن يحقق الغاية المرجوّة منه، ما دام أنه سيبقى تحت سقف التواصل من موقع الاختلاف.
وكاد الاشتباك السياسي يتصاعد لو لم يبادر الرئيس عون من خلال مكتبه الإعلامي إلى نفي ما نُسب إليه من أن الثلاثي رئيس المجلس النيابي نبيه بري والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري ورئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط يعد العدّة للانقلاب عليه، وهذا ما دفع بري إلى صرف النظر عن البيان الذي أعده ليرد فيه على «الاتهام»، مع أن المداولات التي جرت بين عون والسفيرة الفرنسية لم تسجّل حصول أي تقدّم يفتح الباب أمام فتح ثغرة في الحائط المسدود الذي تصطدم به مشاورات التأليف.
كما أن موجة الاحتجاجات الشعبية لم تحرّك ساكناً لدى رئيس الجمهورية، وهذا ما ينسحب أيضاً على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي لا يزال يتردد ولم يحسم أمره في دعوة مجلس الوزراء للانعقاد لإقرار مشروع قانون الموازنة للعام الحالي في صيغته النهائية تمهيداً لرفعه إلى البرلمان لمناقشته والتصديق عليه، ولا في تحديد موقف حكومته من ترشيد الدعم على خلفية أن الاحتياطي المتوافر لدى المصرف المركزي وتحديداً بالعملة الصعبة لا يحتمل الإبقاء على الدعم، وكأن الوضع المالي لخزينة الدولة بألف خير.
لكن اللافت في اتساع موجة الاحتجاجات كان في تعاطي القوى الأمنية وتحديداً الجيش وقوى الأمن مع نزول آلاف المحتجين إلى الشوارع والطرقات الرئيسية في جميع المحافظات وأولها في بيروت، حيث إنها نجحت في استيعاب حالات الغضب العارمة، وبالتالي قطعت الطريق على حصول صدامات ولو محدودة، لأن الوجع المترتّب على ارتفاع منسوب الجوع والعوز كان القاسم المشترك بينهم، خصوصاً أن مشكلتهم كانت وستبقى مع الطبقة الحاكمة التي تُمعن في عدم الالتفات إلى صرخات الجياع.
وبالعودة إلى انسداد الأفق في وجه الوصول بالمشاورات إلى الإفراج عن تأليف الحكومة، علمت «الشرق الأوسط» أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم كان أوقف تشغيل محركاته بين عون والحريري مروراً برئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل الذي يتصرّف وكأن في حوزته وكالة حصرية من رئاسة الجمهورية تجيز له الإمساك بورقة التفاوض، وبالتالي تمنحه التفرُّد في تقرير مصير المشاورات.
وفي هذا السياق، قال مصدر مواكب لـ«الكمائن» التي تعيق ولادة الحكومة أن باسيل يصر على أن يكون له الثلث الضامن في الحكومة بخلاف حرص عون الدائم على نفيه لمطالبته بهذا الثلث، وأكد أن على الذين يشككون بتوجيه اتهام التعطيل إلى باسيل أن يراجعوا اللواء إبراهيم للوقوف على ما لديه من معطيات أقل ما يقال فيها إنها لا تبرّئ ذمة التيار السياسي المحسوب على عون من هذه التهمة.
ولفت المصدر نفسه إلى أن باريس منزعجة من استمرار تعطيل تشكيل الحكومة الذي يعيق تنفيذ المبادرة التي طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقال إنها تحمّل المسؤولية لعون، ومن خلاله لباسيل باعتبار أنه وحده يتصرف كرئيس ظل يملك حق النقض لأي تشكيلة وزارية ما لم تدفع باتجاه تعويمه.
وكشف أن باريس أخذت على نفسها الانتقال من مرحلة تدوير الزوايا لإعادة الاعتبار لمبادرتها إلى مرحلة الضغط على عون وباسيل، وإن كان الأخير يبقى المستهدف الأول بهذه الضغوط لأنه يمسك بأوراق التفاوض، وقال إن تحرُّك السفيرة الفرنسية باتجاه عون يأتي في سياق تحميله مسؤولية إعاقة تأليف الحكومة.
وأكد أن الحريري استجاب لرغبة ماكرون والتقى عون في محاولة قد تكون الأخيرة ليس لمعاودة التفاوض فحسب، وإنما لإنقاذ مشاورات التأليف، وقال إن باريس تعهدت بأن يكون لها موقف آخر في حال استمر عون في عناده ومكابرته، كاشفاً أن معظم الأطراف المعنية بتأليف الحكومة أُحيطت علماً باستعداد الفريق المساعد لماكرون في ملف الأزمة اللبنانية للقيام بتدخّل ضاغط لمصلحة الإسراع بتأليفها.
واعتبر أن عون ومعه باسيل هما من عطّلا المبادرة التي طرحها الرئيس بري، وقال إن عدم تدخّل «حزب الله» بالضغط عليهما شجعهما على المضي في تعطيلهما لتشكيل الحكومة، وأكد أن ما طرحه أمينه العام حسن نصر الله بتفهّمه لمطالبة الحريري بوزارة الداخلية ورفضه الثلث الضامن في مقابل زيادة عدد الوزراء من 18 إلى 20 أو 22 وزيراً لضمان تمثيل النائب طلال أرسلان لم يقدّم أو يؤخّر في تعديل المواقف.
وعزا السبب إلى أن نصر الله أراد أن يسترضي باسيل وأن يمنح أرسلان جائزة «ترضية»، وهذا يقود حتماً إلى تأمين الثلث الضامن لباسيل الذي يصر عليه بصرف النظر عن زيادة العدد أو الإبقاء على صيغة 18 وزيراً.