منير الربيع – المدن
عملياً، يبدو الانحدار أسهل من البحث عن مصاعب الارتقاء. لا أسهل من الانهيار الإقتصادي في مواجهة السعي نحو تعزيز النمو. ولا أيسر من تهافت السياسة ممارسة وثقافة، وبدافع عاطفي أو شعبوي، في مواجهة السعي لتكوين فكرة سياسية قائمة على البناء مشبّعة بالثقافة القادرة على الإنتاج والمراكمة.
هلوسات “الفيدرالية”
الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان يقابل انهياراً سياسياً وثقافياً واجتماعياً هائلاً. فيتحول الدين إلى أفيون الجماهير، والطائفة تستحيل تحصيناً لشخص، والحزب قالباً إلهياً للقائد الملهم. عند هذه الحسابات، تختلف الطروحات وتتهافت الأفكار، وتفقد السياسة معانيها. ينطبق ذلك على الصراع الدائر حول تشكيل الحكومة، ولعبة كسب الوقت والاستثمار بالخطاب الطائفي أو المذهبي على وقع بلد ينهار بكل مقوماته الاجتماعية والاقتصادية، فيما الجدل البيزنطي قائم، حول جنس الملائكة، وأنواع الحقائب وكيفية الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وعلى هامش هذا الفراغ السياسي الهائل، الذي تحدثه قوى سياسية منعدمة الأفق والنظر، تحتل الساحات مشاريع تخريب للعقول من قبيل الدعوات إلى الفيدرالية وغيرها.. فعلى أبواب دعوات دولية وفاتيكانية بحثاً عن حماية لبنان وكيانه، ثمة من يلجأ إلى طرح أفكار تجزئة الكيان وتعزيز الانقسامات فيه.
في حقيقة الأمر تبدو طروحات الفيدرالية هلوسات لا يمكن علمياً توقع حقيقة ما تعكسه. فهي حتماً لا علاقة لها بالعلم ولا بالسياسة الواقعية في بلد مثل لبنان. بمجرد النظر إلى الخريطة الموزعة، يمكن الخروج باستنتاج بسيط حول الفسيفساء الهزيلة التي تخرج بها. صحيح أن الفيدرالية تستخدم في حالة الانقسام وطموحاً للذهاب إلى الاتحاد. ولكن هذا لا ينطبق على لبنان المختلف جذرياً عن سويسرا أو غيرها. النظام الفيدرالي يقوم على إمكانية تنوع ببعض الأحكام والقوانين الداخلية، إنما بعملة واحدة، جيش واحد، وسياسة خارجية واحدة. وهذه كلها مقومات غير متوفرة في لبنان. لأن الفكرة تنطلق من معارضة السياسات الخارجية المختلف عليها، فتقوم على أساس تقسيمي يتعارض كلياً مع الفيدرالية. خاصة أن في لبنان مصادر مالية متعددة، وتوجهات سياسية خارجية متعددة أيضاً ومتناقضة.
الهوية الطائفية
يريد هؤلاء طرح الفيدرالية رداً على السياسات الآحادية القائمة في المجتمع اللبناني، وذلك يتعارض كلياً مع أساس الفكرة. وهو ينطلق فقط من هلوسة أيديولوجية، غير قابلة للمعالجة على الإطلاق. من الناحية الجغرافية لا يمكن لهذا الطرح أن يستقيم، ولا من الناحية الديمغرافية، لان هناك مناطق عديدة تضم تنوعاً بشرياً طائفياً ومذهبياً هائلاً. كذلك تقوم الفكرة على اعتبار أن الانتماء الطائفي هو المنطلق من خلفية عائلية واجتماعية، في بيئة محلية بفعل الوراثة. وبالتالي، يتم الإفتراض بأن هذا الانتماء الذي لا يختاره المرء هو المرجع لتلك الأيديولوجية التي يجب أن تطبع أي شخص بموجب ما ورثه.
وذلك ينطوي على خلل ثقافي هائل، يضع المسيحيين في خانة الغرب، والدتهم فرنسا، بينما السنّة في خانة العروبيين، أما الشيعة فولاؤهم لإيران، معطوفاً على تعدد أنواع الحياة الاجتماعية والثقافية في لبنان، ما يكرس افتراضاً وهمياً بان كل شيعي في الكانتون الشيعي ينتسب إلى الجانب الأعم في هذه الطائفة، ويحرمه من صفة الليبرالية أو الحرية الفردية، فيتم تعميم الصفات الموروثة وتحويلها إلى هوية أيديولوجية ثقافية سياسية، فيما الأصح هو التنوع القائم لدى الناس، فلا يمكن وضع المسيحيين في جانب ثقافي واجتماعي واحد، وهو ما ينطبق أيضاً على الشيعة والسنة وغيرهم. ما يجري هو نوع من أنواع تجليات الانحطاط الفكري والسياسي، ينمو بنتيجة فراغ ثقافي وإعلامي، والاستثمار في حالة القرف بشعارات تلقى قبولاً لمثل هذه الطروحات الوهمية، لمواجهة ما يعتبرونه الخروج عن الأطراف المتسلطة، على قاعدة شعبية أصبحت تتردد بشكل كامل: “لماذا نسمح لهم بالسيطرة علينا، فلننفصل عنهم وليسيطروا على أنفسهم ونحن نسيطر على أنفسنا”. وهذه ترجمة عملية لمجريات الحرب التي شهدها لبنان بين 1975 والعام 1990.
أقليات وأكثريات
فكرة الفيدرالية في لبنان تنطلق من ارتكازها على التنوع وتعدد الطوائف والمذاهب، وبالتالي يتم تقسيم المسلمين إلى ثلاثة كانتونات، بينما المسيحيون جميعهم في كانتون واحد. وهذا أول مبررات إسقاط المشروعية لهذا المشروع، خصوصاً أنهم يرتكزون إلى التاريخ الطائفي الطبيعي الموجود في لبنان، وتكرس أيام المتصرفية والقائمقاميتين وصولاً إلى ميثاق العام 1943. المسيحية دين وليست طائفة. وبالتالي، لا يمكن وضعهم في بوتقة واحدة، بينما الانسجام قد يفترض بكانتونات مسيحية متعددة، تطال أكثريات طائفية وأقليات أيضاً.
كل هذه الطروحات تلقى معارضة شاملة لدى البطريركية المارونية أولاً ولدى الفاتيكان ثانياً. فالكنيسة هي التي لعبت دوراً أساسياً في نشوء لبنان الكبير. وهناك بعد نظر عميق جداً لدى الكنيسة ولدى الفاتيكان حول ضرورة الحفاظ على الكيان اللبناني بتنوعاته المختلفة ووحدة أراضيه وسيادة الدولة المركزية، بمواقف واضحة صدرت في هذا الصدد. بعدُ النظر هنا يشير إلى النزعة الانتحارية لدى من يطرح مشاريع الفدرلة، التي لا يمكن أن تنجح في لبنان، ولا في المنطقة، وطبعاً مع التسليم بفكرة أن نظرية تحالف الأقليات لا يمكن أن ترى النور. النموذج الوحيد في المنطقة الذي يقيم الدولة على أساس ديني وطائفي ومذهبي هو إسرائيل، والتي سعت في مراحل متعددة إلى تعميم نموذجها من خلال عمليات وحروب التهجير. ولكن حتى إسرائيل أصبحت في أزمة هائلة، وجودية وهوياتية، بعد كل التطورات التي حصلت في السنوات الماضية.