رأى الرئيس فؤاد السنيورة أنه “من أخطر الأمور، التي انحرفنا في ممارساتنا السياسية والحكومية، والتي أصبحت سمة هذا العهد في السنوات الأخيرة، تتمثل بالميل إلى استعمال القضاء كمخلب من أجل الانتقام من الخصوم السياسيين، هذا بينما يفترض بالقضاء أن يكون نزيها ومنزها وحياديا وبعيدا عن الانغماس في الخلافات السياسية، وأن نعمل جادين من أجل ننأى به عما يسمى اللعب بالقضاء”.
وأشار خلال زيارته مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، في دار الفتوى، إلى أنه “مما لا شك فيه، أنَ جميع اللبنانيين، وبمن فيهم المسلمون، يمرون في فترة شديدة الصعوبة بسبب الانهيارات الحاصلة على أكثر من صعيد. وكما هو معلوم، هناك جملة من الاستحقاقات الكثيرة الأهمية. وفي البدء، تحدثنا عن موضوع تأليف الحكومة العتيدة، إذ أنّ هناك استعصاء لا يزال يمارس. وبالتالي، هناك جملة من العراقيل التي توضع في طريق رئيس الحكومة المكلف، بما يحول دون تأليف حكومة تستطيع أن تواجه المشكلات الكثيرة التي يعاني منها لبنان، والتي تقتضي من الجميع التعاون لتسهيل عملية تأليفها”.
وأضاف: “كذلك، وكما هو معلوم، ليس هذا هو الاستحقاق الوحيد، بل هناك أيضا استحقاقات على صعيد الانتخابات الرئاسية، والتي يفصلنا عنها قرابة 100 يوم على نهاية العهد الحالي، فانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية أمر يقتضي التبصر مليا فيه، إذ ينبغي علينا التقدم على المسار الحقيقي الذي نستعيد فيه الدور الحقيقي لرئيس الجمهورية في لبنان من خلال الاحترام الحقيقي والكامل للدستور، وذلك بما يبعدنا عن أي بدع أو مخالفات أو تعديل للدستور. وهذا يتطلب أن يكون الاختيار والانتخاب، كما يحدده الدستور، وليس كما درجنا عليه، حيث ساد تفكير خاطئ في الماضي، بأن يكون الاختيار للقوي في طائفته”.
وأردف: “على العكس من ذلك، رئيس الجمهورية يجب أن يكون القوي لدى جميع اللبنانيين، والمقبول من قبل جميع اللبنانيين لكي يستطيع القيام بدوره الحقيقي، لأنّه رمز وحدة الوطن، كما يقول الدستور. وبالتالي، يقتضي أن يكون هذا الرئيس قادرا على أداء هذا الدور الوطني الكبير، وألا يصار إلى تقزيم الرئيس من خلال بدع وممارسات ومصالح وحصص صغيرة من هنا أو من هناك، وتؤدي في النهاية إلى أن يفشل هذا الرئيس في القيام بدوره الوطني الكبير الذي نتوقعه منه”.
وتابع السنيورة: “أقول هذا، مستذكرا تلك الممارسات التي شهدناها في السنوات الماضية، لا سيما في ظل استمرار هذه الاستعصاءات والمشكلات التي تواجه لبنان في هذه المرحلة تحديدا، إذ أن العالم من حولنا الآن يمر في مرحلة شديدة الصعوبة، تتطلب من الدول الصغيرة الحجم مثل لبنان أن تتصرف بقدر عال من الحكمة والتبصر، والابتعاد عما يورطها في صراعات الآخرين”.
واعتبر أنه “يجب على لبنان أن يسعى من أجل تحييد نفسه عن الاهتزازات والصدمات الآتية من الخارج، التي تنعكس سلبا على لبنان، إذ بسبب هذه المحاور القديمة والمستجدة التي تجري في العالم الآن، فإن القوى الدولية تبحث عن أمكنة للنزال وللصراع، ولكي تمارس اختلافاتها وصداماتها بين بعضها البعض، وتكون هي المناطق الساخنة، في ظل احتمال نشوء جديد لما يسمى الحروب الباردة الجديدة، التي قد تعم العالم مع نشوء بعض المناطق الساخنة”.
وأكد أن “هذا ما يدعونا إلى أن نتنبه ألا يكون بلدنا مكانا من أماكن الصدامات، فيما بين هذه القوى العظمى المتناحرة. وبالتالي، ينبغي العمل الجاد من أجل النأي فعليا بلبنان عن أن يكون في ممرات الأفيال الكبرى. وهذا الأمر يتطلب حكمة شديدة على صعيد انتخاب الرئيس الجديد، وكذلك على صعيد تأليف الحكومة الجديدة، وكذلك في ما خص التقدم على المسارات الحقيقية لإجراء الإصلاحات التي طال انتظارنا واستعصاؤنا عن القيام بها على مدى سنوات. هذا رغم أنّ هذه الإصلاحات التي نحن في أمس الحاجة إليها، وهي بالفعل، على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي وإداري وغير ذلك”.
واستطرد: “كذلك، تداولنا في عدد من الأفكار مع سماحة المفتي، حيث استعرضنا العديد من الأمور التي تتعلق بالأوضاع الإسلامية العامة. وكانت وجهات نظرنا، والحمد لله، متطابقة، وسيصار إلى متابعة هذه الأحاديث مع سماحته في الأيام والأسابيع المقبلة”.
وعن موضوع القضاء، قال: “أذكر ويذكر اللبنانيون أنني عندما كنت رئيسا للحكومة، عبرت عن موقفي آنذاك، وبشكل صارم، أنني عندما أتسلم مرسوم التشكيلات القضائية الجديدة، سأبادر فورا ومباشرة إلى توقيعها من دون أن أطلع عليها، ولم أكن في حينها أزايد على أحد في هذا الشأن، لكنني كنت أنطلق أساسا من أن القانون يوجب فعلا على كل من وزير العدل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية أن يوقعوا مراسيم تلك التشكيلات القضائية، بحسب اقتراح مجلس القضاء الأعلى، وذلك لأن صلاحيات أولئك الثلاثة تصبح عند إقرارها من مجلس القضاء الأعلى صلاحيات مقيدة، وينبغي عليهم توقيعها. لقد وقعتها ووقعها معي وزير العدل آنذاك، ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك، وهو ما فعله أيضا الرئيس ميشال عون خلال السنوات الماضية”.
وأردف: “أروي هذه الحادثة لأؤكد أنَ هناك ضرورة لتحييد القضاء وإبعاده عن الانغماس في الخلافات السياسية. وبالتالي، فإن هذه الممارسات التي نراها الآن وما يمارسه بعض القضاة- وعلى سبيل المثال القاضية غادة عون- لا علاقة له لا بالقضاء ولا بالعدل ولا بالقانون، هذه فعلا ممارسات يتقصد من هم خلفها التنكيل بالخصوم السياسيين. وأعتقد أن من واجب فخامة الرئيس شخصيا أن يحول دون ذلك، وأن يوقف هذه المهزلة التي تمارسها هذه القاضية باسم القضاء، والقضاء منها براء. هذا الأمر لا يجوز أن يستمر لأنَ فيه إذلالا للقضاء، وإذلالا للبنانيين وضربا للقضاء وضربا لمفهوم الدولة وضربا وتهديما للاقتصاد وللقمة عيش اللبنانيين. هذا الأمر لا يجوز أن يستمر على هذه الحال على الإطلاق”.
وشدد على أنه “لا أقول هذا فقط عن القضاء، بل أقول أيضا أنه لم يعد يجوز أن يستمر هذا الاستعصاء عن القيام بالإصلاحات المطلوبة، وذلك من أجل أن تعود الثقة إلى لبنان والاقتصاد اللبناني. إذ أن الإصلاحات الواجب أن نقوم بها لا تقتصر فقط على ممارسة حقيقية لاستقلالية القضاء، وإبعاده عن الانغماس في الخلافات السياسية، بل يجب أن نبعد الإدارة اللبنانية عن الانغماس في الخلافات السياسية”.
وأسف “لأنه لم يعد هناك من موظف صغير أو كبير في لبنان، إلا وهو تابع للحزب الفلاني أو لمجموعة سياسية من هنا أو هناك بسبب استتباع الإدارة اللبنانية للأحزاب الطائفية والمذهبية والميليشيوية. وفي حقيقة الأمر، ولكي تستقيم أمورنا الوطنية والسياسية، يفترض بالدولة أن تكون حيادية في علاقتها مع جميع اللبنانيين. وبالتالي، يجب ان نعيد الاعتبار للكفاءة والجدارة في اختيار العاملين في كل إدارات الدولة ومؤسساتها، وأن تكون المحاسبة على أساس الأداء، هذه هي الطريقة الأمثل لاستعادة ثقة العالم بنا وبدولتنا وباقتصادنا الوطني، واستعادة ثقة اللبنانيين بالدولة اللبنانية”.
وأوضح انه “لا يمكن أن يحصل لبنان على ثقة الأشقاء العرب وثقة العالم بنا، إذا لم نعد الاعتبار للدولة وصدقيتها وقرارها الحر، لاحترامنا للشرعيتين العربية والدولية واحترام الدولة اللبنانية للقرارات الدولية ذات الصلة بلبنان. هذه الأمور التي يفترض بنا أن نحافظ عليها، والمصيبة أننا نرى أننا نخالفها كل يوم وفي كل حين. والمؤسف أن استقلال القضاء يمارس بالعكس، حيادية الدولة تمارس بالعكس، وعلاقتنا مع أشقائنا العرب تمارس بالعكس. لقد أصبح لبنان يتصرف من موقع مخالف لمصلحته ولمصلحة أبنائه، فهذه هي التحديات التي علينا أن نواجهها”.
ولفت إلى أنه “هناك مشكلة أخرى يجب أن نتنبه لها أيضا وأن ندركها وأن نعترف بها، وذلك أنه حتى ولو طبقنا كل القرارات والإصلاحات التي يقترحها صندوق النقد الدولي، فذلك لن يكون كافيا، إذ من الضروري أن نقوم بها وأن نكون قادرين على تنفيذها، ولكن إذا لم تترافق مع ذلك إصلاحات سياسية وممارسات صحيحة في الداخل، ومن ذلك إعادة الاعتبار لهذه المبادئ الأساسية التي أتكلم عنها في استعادة الاعتبار للدولة اللبنانية ولسلطتها الكاملة على قرارها الحر وعلى كامل أراضيها، فإنّ تلك الإجراءات الاقتصادية والمالية والنقدية لن تكون كافية”.
كذلك شدد على أنه “يجب أن نفهم مقتضيات المرحلة التي نخوضها الآن، وأن نفهم المتغيرات الجارية في العالم، والمتغيرات الجارية في لبنان، وأن نعي ما هي مقتضيات مواجهة الانهيار التي نحن فيها على الصعد الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية. كل هذه التحديات تتطلب منا فهما وممارسة مسؤولة، حتى نستطيع الخروج من هذ المأزق الكبير الذي يعصف بلبنان ويعاني منه اللبنانيون”.
وكشف عن أنه “لدينا مشكلة في كيفية استعادة ثقة اللبنانيين بالغد أي بالمستقبل. ولذلك، فإننا إذا ما استطعنا حقا أن نجعل اللبنانيين بداية بالغد، فإنه لا أمل بالخروج من هذا الوضع. هذا الأمر يتطلب ممارسة مسؤولة من قبل جميع المسؤولين الحاليين وفي المستقبل، وكذلك أيضا من قبل المجلس النيابي، ومن قبل الحكومات برئيسها ووزرائها وبإداراتها، وحتما قبل ذلك من قبل رئيس الجمهورية”.
وختم السنيورة قائلا: “يجب أن نكون جميعا على مستوى هذه المسؤولية الكبرى، وإلا فليس هناك مِن إمكانية للخروج من هذه المآزق الكبرى التي تعصف بنا، والتي إذا استمرت على هذه الحال المدمرة، ستأخذ الجميع نحو المزيد من الانهيارات”.