
قبل نحو خمسين عاماً كانت إذاعات بعض الدول تنعت السعودية بمقولة الرجعية، واستمرت حالة النقد هذه بين المد والجزر… تارة يشتمونها وينعتونها بالتخلف وبلاد البدو وأهل الإبل والاغنام وآخرى يتوقفون فيها عن الحديث حين تجف حلوقهم… كانت السعودية تعمل بصمت وتحاول جاهدة إرضاء الجميع، لكنها لم تتوقف عن دعم كل عربي وإسلامي رغم ما تتعرض له من نقد جارح.
استمر الحال لأكثر من نصف قرن اعتاد فيه الآخرون الشتم والنقد حتى أصبحت لديهم عادة، والأمر بات سهلاً … نخرج ونشتم السعودية وقيادتها وما يلبث أن يرضونا بالمال … لم يكن يعرف أولئك معنى “النخوة العربية” والعفو المستمر عند الحاجة وهو المنهاج المتبع لدى حكام المملكة منذ الأزل … حتى سقطوا سقوطاً مخزياً وانكشفت مساوئهم … وواقع الأمر أن المملكة جبلت على التطنيش لذلك القدح المستمر والاستنقاص غير المبرر ضدها وهي تعرف تماماً أن الأهداف إما لتنازلات سياسية أو ابتزاز مادي واضح المعالم … واستمر الصمت السعودي لعقود مضت لا يتحدث ولا يخرج عن إطار التعاون والتسامح حتى رسخت في أذهانهم أنها دولة ضعيفة لا تستطيع الرد، مما عمّق الفكرة التي جعلتهم يتمادون في عنجهيتهم واتهاماتهم … ولعمري أن السعودية الصامتة كانت تبني المصانع وتخطط المدن وتعمل ليل نهار على تطوير قدرات أبنائها وفتحت كل السدود من أجل العلم لينهمر كالسيل الجارف ضد الجهل والتخلف.
وعندما ازداد ازدراء البعض لها بخبث جاءت اليهم كالصاعقة ودمرت كل أحلامهم الابتزازية حين توقفت عن فكرة سنوات الصمت ولملمة الشمل وفرقعة الوحدة العربية لدعم الجبهات العربية التي سرق البعض كل أحلام أبنائها وحول كل مليارات الدعم والصمود المزيف لحساباتهم التي ثخنت في بنوك عالمية وبقيت الشعوب جائعة … نهضت السعودية كالطود العظيم لتقفل “صنبور” الكذب الذي ظنت أنه يدعم ويؤازر شعوباً عربية مضطهدة. وقد يتساءل البعض ما الذي غيّر السعودية عما اعتدنا عليه وهل الأمر يتعلق بقيادة أو حكومة … والواقع أن ذلك ليس صحيحاً، فالمملكة اليوم كبقية دول العالم التي يهمها مصلحتها ومصلحة أبناء شعبها أولاً وأخيراً، لذا لجأت إلى الإصلاح العام في خططها التنموية والسياسية، ولم تعد الكثير من القضايا المصطنعة تهم المملكة وهي ترى أن البعض لا يزال يعيش على وهم الابتزاز تارة والنقد والاتهام تارة أخرى، فكان الإصلاح الداخلي أول شروط النجاح لامتداد الدولة السعودية الثالثة فقضت على الفساد وأعادت الكثير من الأموال الى خزينة الدولة بعد أن كان البعض يسرق وينهب بلا مبالاة. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن هناك تجاوزات مالية ضخمة كانت تذهب لدعم البعض من أجل تطوير بلاده، لكنهم كانوا للأسف يسرقون أوطانهم، ووجدت السعودية نفسها تقضي على الفساد في الداخل لكنها تجاهلته في الخارج مع دول قدمت لها الدعم من كهرباء ومستشفيات وأموال يذهب أكثر من نصفها لجيوب ساسة تلكم الدول.
هنا فقط انتفضت القيادة السعودية ليس من أجلها فحسب، بل ومن أجل إنقاذ الشعوب المحرومة التي لا تحصل حتى على أقل من المستحق لها لحياة كريمة فتوقفت عن العطاء الذي اعتاد عليه اولئك الساسة، فخرجوا عليها يلطمون ويتهمونها بالتقصير وقد اعتادوا على فعل ذلك ولا يلبثون أن يعود كل شيء كما كان إلا أنهم اصطدموا بالجدار السعودي الصلب … لا مال ولا مشاريع إلا تحت إشراف سعودي وهذا مبدأ عالمي للقضاء على المفسدين في الأرض … لذا لن يحب أحد السعودية وهي تحاسب كل من يأخذ ولا يقدم شيئاً قريباً كان أو بعيداً. بيد أن المملكة عانت مؤخراً كثيراً من أشقاء تحسبهم بين أضلعها لكنهم طعنوها لمصالحهم الشخصية ولم يقدموا لأوطانهم ما يشفع لهم بالاستمرارية.
توقف ذلك الصنبور المتدفق بغزارة نحو الشمال والغرب والجنوب من الوطن العربي حتى تتستيقظ شعوبهم، فقد صرفت السعودية على قضايا عربية كثيرة أكثر مما يجب وهي تعلم أن رؤوس الهرم لتلك الحكومات والدول يسرقون قوت شعوبهم … من أجل ذلك لا يريدون سعودية بجلباب جديد يكشف سرقاتهم وكذبهم وتلونهم، بل يريدونها تغض الطرف عن كل شيء … وهذا لن يحدث في وقت الحزم وعزيمة الرجال.
المصدر:النهار العربي