كما يهرب السياسيون وأصحاب الثروات بأموالهم إلى «الجنّات الضريبية»، وهي دولٌ لا تفرض ضرائب أو تكون نسبتها قليلة جدّاً، يهرب النافذون من كلّ الخلفيات (سياسيين، رجال أعمال، مصرفيين…) إلى ما يُسمّى بـ«الحسابات الائتمانية» في المصارف، ليُخفوا هوياتهم ويحصلوا على فوائد مرتفعة و«يفرّوا» بها عند استشعار أي خطر… هكذا قام لبنانيون نافذون بتحويل الدولارات إلى خارج البلد، منذ تشرين الأول 2019 وحتّى تاريخه. وقد دفع مصرف لبنان من حساب العملات الأجنبية لديه هذه الدولارات ليتم إخراجها من لبنان، فيما كان يدّعي أنّ الدولارات تتبخّر لتمويل دعم الاستيراد ودفع مصاريف عن الخزينة العامة. البنك المركزي ساعد نافذين على «تهريب» أموالهم، مُقفلاً المصارف أمام المودعين «العاديين» والموظفين الذين يقبضون رواتبهم بموجب شيكات، قبل أن يأتي اليوم ويُمنّنهم بـ 400 دولار شهرياً لمدّة عامٍ فقط!

7 مليارات دولار هي قيمة الأموال التي أُخرجت من لبنان غداة انتفاضة «17 تشرين» من ودائع غير المقيمين. الرقم مذكور في تقريرٍ صادر عن بنك «بلوم أنفست» في كانون الأول 2020، يُبرّر فيه أنّه «بغياب قانون القيود على رأس المال («الكابيتال كونترول»)، أُجبرت المصارف على دفع الـ 7 مليارات دولار، ما ساهم في زيادة عجز ميزان المدفوعات (تُسجّل فيه صافي الأموال التي دخلت لبنان وتلك التي خرجت منه)، المُقدّرة بـ 9.9 مليارات دولار»، مفترضاً بأنّ جزءاً كبيراً منها استُخدم لتسديد ودائع ائتمانية. يعترف أحد أكبر المصارف في السوق، أي «لبنان والمهجر»، في التقرير الذي أعدّه بأنّ مصرف لبنان والمصارف تسبّبا بعجز ميزان المدفوعات، لأنّهم دفعوا لبعض الأفراد دولارات خارج لبنان. ومُجدّداً لا بد من التذكير بأنّه في الفترة نفسها، أقفلت المصارف أبوابها وتسبّبت بحالةٍ من الهلع دفعت بالمودعين إلى التهافت على سحب أموالهم… من دون أن ينجح معظمهم بذلك. تقنينٌ قاسٍ مورس على هؤلاء، فيما كان أصحاب الملايين ينجون بدولاراتهم بحجّة أنّهم يملكون حسابات ائتمانية.

تُدرج الحسابات الائتمانية ضمن حساب «ودائع غير المقيمين» التي انخفضت ــــ بحسب الأرقام التي ينشرها مصرف لبنان ــــ من 35.5 مليار دولار في تشرين الأول 2019 إلى 26.8 مليار دولار في نهاية آذار 2021، أي بما يُقارب الـ 8.7 مليارات دولار. لم يُدفع أصل المبلغ فقط، بل الفوائد المُترتبة عليها، وتُقدّر بـ 600 مليون دولار كحدّ أدنى. يعني ذلك أنّ النقص في حسابات غير المقيمين هو بحدود الـ 10 مليارات دولار.
الحسابات الائتمانية ــــ أو «Fiduciary accounts» ــــ هي ودائع تستقبلها المصارف من دون أن تُدرَج ضمن ميزانياتها، وبالتالي لا تُكبّدها أعباء إضافية. يوجد نوعان من الحسابات الائتمانية: الأولى توظّفها مصارف أو مؤسسات مالية أجنبية لدى المصارف اللبنانية، «غالبيتها مصدرها مصارف سويسرية»، بحسب مدير تنفيذي في أحد المصارف. والثانية توظّفها المصارف اللبنانية لدى نظيراتها في الخارج، «إجمالاً نسبتها قليلة جدّاً، فالمؤسسات الأجنبية ترفض استقبال ودائع ائتمانية من لبنان بسبب مخاوف عدم الالتزام بالمعايير المطلوبة». كيف تُنشأ الحسابات الائتمانية؟ يطلب زبون من مصرف في سويسرا ــــ مثلاً ــــ أن يفتح له حساباً ائتمانياً، فيختار المصرف الجهة التي سيوظّف الأموال لديها، أو يُحدّد الزبون المؤسسة التي يُريد أن يودع أمواله لديها. في الحالتين، يُفترض أن تبقى هوية الزبون سرّية لدى الجهة التي تُوظَّف الأموال لديها.

النزف الأكبر في الحسابات الائتمانية سُجّل لدى كلّ من مصرفَي عوده ولبنان والمهجر

يعني أنّ المصرف في لبنان، إذا استقبل مليون دولار من مصرف سويسري على شكل وديعة ائتمانية، لا يعرف من هو الزبون بل تبقى علاقته مباشرة مع المصرف السويسري. يقول مدير مصرفي إنّ «بعض المصارف اللبنانية لم تكن تقبل ودائع ائتمانية إلا لأشخاص تربطها بهم علاقة».
ويجزم بأنّ «أكثر من 90% من الحسابات الائتمانية لدى مصارف لبنان، هي للبنانيين أرادوا الاستفادة من الفوائد المرتفعة في حينه، وأن تبقى هويتهم سرية. ومن بين هؤلاء وزراء سابقون ونوّاب حاليون ورجال أعمال ونافذون تربطهم علاقات مع إدارات المصارف ومصرف لبنان».
بعد انفجار الأزمة، هبّت المصارف لتسويق أنّها «مُجبرة» على تسديد هذه الالتزامات، وإلا تكون معرّضة لدعاوى إفلاس يرفعها بحقّها الزبائن، على اعتبار أنّ هذه الحسابات هي «التزامات خارجية» ولا يُمكن التهرّب منها.

الحصّة السوقية الأكبر من الحسابات الائتمانية يملكها كلّ من مصارف: عوده، لبنان والمهجر، سوسيتيه جنرال، البنك اللبناني الفرنسي وبيبلوس. وقد انخفضت الحسابات الائتمانية من 6.2 مليارات دولار سنة 2018 (تقرير «بنك داتا») إلى 5.9 مليارات دولار سنة 2019، وصولاً إلى 1.3 مليار دولار عام 2020 و1.4 مليار دولار في أول 3 أشهر من سنة 2021 (أرقام مصرف لبنان). الأرقام تدنّت لدى المصارف الـ 28 التي تفتح حسابات ائتمانية، إلا أنّ أكثر الذين يبرز «النزف» لديهم، هم: عوده (مليار و970 مليون دولار بين 2019 و2020)، لبنان والمهجر (مليار و13 مليون دولار بين 2019 و2020)، سوسيتيه جنرال (798 مليون دولار بين 2019 و2020)، البنك اللبناني الفرنسي (535 مليون دولار بين 2019 و2020) بنك البحر المتوسط (374 مليون دولار بين 2019 و2020). بعض المصارف «صفّت» حساباتها الائتمانية العام الفائت، لكن المُستغرب أنّه بين كانون الثاني وآذار 2021، ارتفعت قيمة الحسابات الائتمانية من جديد لدى بعض المصارف. مَن يكون هذا «الزبون» الذي سيثق بقطاع مُفلس يمر بحالة من عدم اليقين، وقد توقّف عن تقديماته، ومنها الفوائد المُغرية، فضلاً عن حالة اللاثقة بالاقتصاد المحلّي وغياب الاستقرار السياسي، حتى يطلب إيداع أموال لديه؟ تقول مصادر مصرفية إنّه لا يوجد سوى تفسيرين: «إما أنّ المصارف تضمّ أسهماً إلى الحسابات الائتمانية، أو أنّها تنقل دولارات من حسابات محلية إلى حسابات ائتمانية تمهيداً لتحويلها إلى الخارج».