منير الربيع – المدن
في لبنان، ثلاثة أنواع من رؤساء الجمهورية وآليات انتخابهم. النوع الأول، هم الرؤساء “الأقوياء” في طوائفهم وبحيثياتهم السياسية. النوع الثاني، هم رؤساء التسوية الذين يأتون بتفاهمات داخلية وتقاطعات خارجية. فيما النوع الثالث هم قادة الجيش الذين تؤول إليهم رئاسة الجمهورية.
في محاولة لقراءة نتائج الاستحقاق الرئاسي حالياً، لا بد من المرور على تلك التجارب وبعض أنواعها. مع الإشارة إلى أن أي رئيس كان يُنتخب بنوع من التوازنات الخارجية. وبالنسبة إلى الرؤساء الأقوياء، فلم تمرّ عهودهم بسلاسة، وغالباً ما انتهت إما بأزمات سياسية كبرى أو بحروب.
الأقوياء والأزمات
ذلك يتأكد من خلال مراقبة بسيطة لمآلات عهود كل من بشارة الخوري الذي انتهى بالعصيان المدني والإضرابات و”الثورة الاشتراكية” البيضاء. كذلك عهد كميل شمعون انتهى بثورة العام 1958، علماً أنه كان أحد أقوى الرؤساء في تاريخ الجمهورية. والأمر نفسه ينطبق على عهد الرئيس سليمان فرنجية، الذي جاء ضمن بقوة “الحلف الثلاثي” ومثّل الجهة القوية لدى المسيحيين، ليدخل لبنان بأواخر عهده في الحرب الأهلية. وهو ما تفجّر أكثر مع انتخاب بشير الجميل وانتخاب أمين الجميل بعد اغتيال الأول. ما بين حقبة الحرب وحقبة اتفاق الطائف وما بعده، اتسم ميشال عون بصفة الرئيس القوي، والذي دخل بصراعات سياسية متعددة وموسعة مع غالبية القوى، فانفجرت الأزمات السياسية والدستورية والاقتصادية في عهده.
في المقابل، فإن النوع الثاني، أي رؤساء التسوية، فقد اتسمت عهودهم بتحقيق إنجازات داخل مؤسسات الدولة، بغض النظر عن الحملات العنيفة التي شُنّت عليهم مسيحياً. وهو ما بدأ بالعاصفة السياسية التي تعرض لها الرئيس فؤاد شهاب، علماً أنه جاء بتسوية خارجية انعكست داخلياً، ووصف عهده بأنه عهد بناء المؤسسات، لكنه بقي عرضة لحملات من قبل القوى المسيحية. الأمر نفسه ينطبق على عهد الرئيس شارل حلو، والذي مع اقتراب نهايته دخل لبنان في حقبة اتفاق القاهرة، وبدأ التأسيس للانقسام الكبير بفعل التجاذب السياسي الذي اتخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً. فيما بعد، جاء الياس سركيس كعنوان للتهدئة والتسوية، وعمل على إدارة الأزمة وليس حلّها، إلا أن انفجار البنى اللبنانية استمر على وقع دخول الجيش السوري إلى لبنان واتساع رقعة الحرب واتجاهاتها.
من الهرواي إلى قادة الجيش
ما بعد الحرب، تعرّض عهد الياس الهراوي أيضاً لهجمات مسيحية متوالية، على خلفية تهميش المسيحيين وتغييب أدوارهم وإبعاد ممثليهم، إلا أن عهده شهد عملية تثبيت سعر الصرف العملة والدخول في حقبة إعادة الإعمار وإعادة بناء المؤسسات.
عناصر التسوية والتهدئة أيضاً، انطبقت على عهد ميشال سليمان، والذي انتخب بعد أحداث 7 أيار 2008، وبنتيجة رعاية إقليمية ودولية وقطرية مباشرة، حقق لبنان بعدها هدوءاً ونمواً اقتصادياً، قبل الانقلاب على كل التسويات، بفعل تطورات المنطقة وصولاً إلى انفجار الثورة السورية وتداعياتها السياسية. إلا أن الأزمة حينها بقيت في إطارها السياسي على قاعدة التحول من المعادلة الذهبية أي “معادلة جيش وشعب ومقاومة” إلى وصفها بالمعادلة الخشبية.
إلى جانب الفارق ما بين الرؤساء الأقوياء ورؤساء التسوية، لا بد من النظر في الظروف التي قادت إلى انتخاب قادة الجيش لرئاسة الجمهورية. وهذا المسار الذي بدأ مع فؤاد شهاب، نظراً لمجموعة عناصر، أبرزها أن الرجل كان متوازناً، مؤسساتياً، وقف على الحياد ونجح في حماية الجيش في العام 1952، و1958، ورفض الانصياع إلى طرف في مواجهة الطرف الآخر. قادت الظروف الداخلية والخارجية إلى انتخابه وكان ذلك نتاجاً لتسوية أميركية مصرية انعكست لبنانياً.
أما ظروف انتخاب الجنرال إميل لحود، فكانت لها أبعادها الداخلية والخارجية. داخلياً بفعل بروز توازنات جديدة تتصل بالواقع السوري وتحضير بشار الأسد لوراثة والده. فكان لا بد من تعزيز نفوذه في لبنان من خلال تلك التسوية. انتخب لحود بمباركة عربية ودولية، وأظهر عهد لحود تجديد وتقوية النفوذ السوري في لبنان. كل محاولات تقوية لحود وتغليب طرف على الآخر، انتهت في أزمة كبرى تفجرت مع التمديد له واغتيال الرئيس رفيق الحريري. وبعدها دخل لبنان في دوامة أوصلت إلى أحداث السابع من أيار. تلك الأحداث بكل تشعباتها وارتباطاتها الداخلية والخارجية، أفضت إلى الدخول في تسوية جديدة كان تتويجها بالاتفاق على قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، نظراً أيضاً لتحييده الجيش قدر الإمكان عن الصراع والانقسام، والموازنة في مواقفه بين طرفي الصراع، فوجدت فكرة ترئيس سليمان احتضاناً عربياً ودولياً انعكس في مؤتمر الدوحة.
عون “القوي”.. والعسكري
ميشال عون يحتل مساحة نوعين من أنواع الرؤساء، الرئيس القوي، والرئيس العسكري، وإن وصل إلى الرئاسة بمفعول رجعي. منذ ترشيح نفسه للرئاسة، كان أي مراقب يعتبر أن وصوله إلى بعبدا أمر من سابع المستحيلات، نظراً لمواقفه واشتباكه مع غالبية القوى السياسية. ولكن ظروفاً إقليمية ودولية، من أبرزها نتاجات الاتفاق النووي الإيراني الأميركي، أفضت إلى انتخابه ودفعت خصومه للذهاب إليه. فتكرس واقع تغليب طرف سياسي على حساب الطرف الآخر، ولم يكن ذلك ممكناً من دون مطابقة هذه الوقائع مع ظروف المنطقة.
لحظة انتهاء عهد ميشال عون كان الانقسام الإقليمي كبيراً جداً، وقد شارف مراراً خلال ولايته حدود الانفجار. ما بعد مغادرته لموقعه بدأت الظروف بالتغير والتبدّل وصولاً إلى تقاربات إقليمية ودولية، خلقت مساحات للتفاهمات، يفترض بها أن تنعكس على الساحة الداخلية. ربما هي مرحلة تشبهة حقبة انتخاب فؤاد شهاب، والتقاطع المصري الأميركي وتحقيق التهدئة في لبنان بعد أحداث 1958. وتشبه أيضاً حقبة ما بعد السابع من أيار والانقسام الذي وقع في عهد إميل لحود ومقاطعته من أطراف لبنانية واسعة. فقادت كل هذه الظروف ربطاً بتقاطعات دولية إلى انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان.
الرئيس المنتظر
تعايش عون مع مقاطعة جزء واسع من القوى السياسية. انهارت تفاهماته مع حلفاء ومع من كانوا خصوماً واجتمع بهم سياسياً. انفجرت ثورة شعبية كبرى في عهده، ووقع انهيار مالي واقتصادي هو الأسوأ.
حالياً تبحث المنطقة عن قواسم مشتركة ونقاط تقاطع والتقاء. فيما ينتظر لبنان أن تنعكس التقاطعات الإقليمية والدولية على ساحته الداخلية. وبالنظر إلى الواقع الحالي، ومقارنته مع وقائع تاريخية وأحداث سابقة، فإن نضوج لحظة التسوية على وقع تسويات المنطقة، لا بد لها أن تفضي إلى فرض وقائع جديدة وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، ومعها قد يكون الرئيس من النوع الثالث الذي تفرضه التسويات في مثل هذه الحالات، وهنا قد يتجه الجميع إلى التوافق على قائد الجيش، مع البحث عن مكملات هذا التوافق وعناصره وكلفته.