لم يعد يصلح في وصف علاقة الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري سوى القطيعة الدائمة. منذ 24 تشرين الاول 2020، بانقضاء يومين على تكليف الحريري، اجتمعا للمرة الاولى الى ان وصلا الى الاجتماع الـ18 في 22 آذار 2021. ما بين هذين الموعدين، قطيعة مطبقة استمرت 50 يوماً بين 23 كانون الاول و12 شباط، من ثم استؤنفت اللقاءات بخفر حتى 22 آذار المنصرم وتوقفت. مذذاك الرئيسان في قطيعة كاملة ثانية مر عليها 56 يوماً. كأن لا تأليف للحكومة ولا استحقاقات خطيرة داهمة تنتظرهما، او كأن البلد ليس على وشك الانهيار الشامل. لا احد قادر على التوسط بينهما في الداخل ومن الخارج، وليس ثمة منفذ لفك طوق التعطيل، ومن غير الواضح الى متى سيستمر. لا رئيس الجمهورية يملك ان يجرّد الحريري من التكليف، ولا الرئيس المكلف في وسعه تأليف حكومة لا يوافق رئيس الجمهورية على كل سطر فيها. بذلك لا يعود ذا شأن ومهماً اتهام اي منهما بعرقلة التأليف، وربما عدم الرغبة فيه في الوقت الحاضر.

ما ان وقعت القطيعة الثانية، لا افكار جديدة محددة تتناول تأليف الحكومة، ولم يُكتب لاقتراحات حلول وسط النجاح. يكتفي الحريري بالاعتقاد بأن المسودة الاخيرة التي قدمها قبل نهاية السنة، هي الصيغة الوحيدة التي يقبل بها لحكومته، فيما عون يصر على تصحيحها واعادة نظر اساسية فيها. بعيد الاجتماع الاخير تطايرت فوق الرئيسين، من قصر بعبدا كما من بيت الوسط كما من اوساطهما، اوراق صيغ تحوّلت الى فضيحة سياسية، اذ شهّر كل من الرئيسين بالآخر.
في الايام الاخيرة، قبيل وصول وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان الى بيروت في 6 ايار، ثم بعد مغادرته، انخرطت البلاد في سجال جديد انبأ بجولة مختلفة من النزاع بين عون والحريري وفريقيهما، تدور من حول اعتذار الحريري عن عدم تأليف الحكومة او تمسكه بالتكليف. بدأ الكلام عن الاعتذار بمثابة مناورة، ثم تراجع عنه اصحابه ووضعوه في خانة اشاعة. رغم ذلك، بات يشكّل مصدر الاشتباك السياسي الوحيد المانع تأليف الحكومة، في وقت يخبر الرئيسان معاً على السواء اسوأ مراحل تحالفاتهما، محاطيْن بالخصوم ما خلا قاسماً مشتركاً واحداً يجمعهما هو حزب الله: الحليف العلني للاول رافضاً انكساره بممارسة ضغوط عليه، والحليف المستتر للثاني المصر على ان يكون وحده مرشحه لترؤس الحكومة.
الى تيار المستقبل، يجبه رئيس الجمهورية خصومة سياسية ليست قليلة الاهمية مع الرئيس نبيه برّي، ونزاعاً مفتوحاً مع حزب القوات اللبنانية، وعلاقة مترجرجة تميل الى السلبية اكثر مع وليد جنبلاط. في المقابل، الى التيار الوطني الحر، يجبه الحريري خلافات معلنة على الدوام مع حزب القوات اللبنانية، واهتزازاً مستمراً مع وليد جنبلاط، ما ان يصبح على مصالحة يمسي على سجالات ساخنة. لا حضن فعلياً له الا رئيس البرلمان العالق بين الكنّة والجارة.
حتى هذا الوقت، تدرّجت جولات التباعد بين الرئيسين منذ الاسبوع التالي للتكليف، عندما تأكد – خلافاً لما توقّعه الرئيس المكلف – ان مهمته ليست سهلة بالقدر الذي تصوّره، بذريعة انه يتسلق المبادرة الفرنسية على طريقته، ويطرح شعاراً مفاده ان يقبل مفاوضه الحكومة على النحو الذي يصر او هو ضد المبادرة. تدرّجت جولات الرجلين من الخلاف على الحصص، الى الخلاف على الحقائب السيادية كالداخلية والتشغيلية المدرارة في بلد خاو، الى العدد الذي تتألف منه الحكومة، مروراً بالثلث +1، وصولاً الى النصف +1، الى المرجعية المخولة تسمية الوزراء المسيحيين، الى تمثيل المسيحيين المستقلين خارج الاحزاب المسيحية المعارضة للحريري. راحت جهود التأليف تنط من حكومة 18 الى حكومة 20 فالى حكومة 24 ثم تهبط الى حكومة 18. ثم بانتهاء الجولات تلك، انتقل التأليف الى محطة جديدة قادته الى مكان لا صلة له بما ينبغي ان يقتصر عليه التفاهم بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، وهو ان لا حكومة لا يسبقها حوار بين الحريري ورئيس الكتلة النيابية الاكبر والكتلة المسيحية الكبرى في البرلمان النائب جبران باسيل.

لا أحاديث الآن تتقدّم سجال الاعتذار أو الإصرار على التكليف

الرئيس المكلف يرفض التحدث مع باسيل قبل صدور مراسيم الحكومة، من غير ان ينقطع في الوقت نفسه تواصله مع الثنائي الشيعي، فيما صهر رئيس الجمهورية – كما الرئيس اولاً بأول – متمسك بأن يُعطى حقاً مماثلاً للذي أُعطي الى برّي بحصوله على حقيبة المال، ووليد جنبلاط بحصر التمثيل الدرزي به، وتالياً الاعتراف بحقه هو كرئيس كتلة نيابية كبيرة في تسمية وزراء يمثلونها، شأن القطبين الآخرين، اخذاً في الحسبان فصل حصته عن حصة عون.
كل ذلك حصل في الاشهر السبعة المنقضية منذ تكليف الحريري، الذي يدخل بعد اربعة ايام في الشهر الثامن. على ان الجولة المحدثة وضعت التأليف في اسوأ محطاته، سواء من خلال حصر السجال بالاعتذار او عدمه، او ربط اعتذار الرئيس المكلف باستقالة رئيس الجمهورية. لا الاعتذار سابقة، وقد سبقه اليه الرئيس رفيق الحريري مرتين عامي 1998 و2004 قبل ان يُكلف وبعدما كُلف، وكذلك الرئيس عمر كرامي عام 2005 بعد تكليفه. كذلك مطالبة رئيس الجمهورية بالاستقالة ليست جديدة، رافقت رؤساء ما قبل اتفاق الطائف وبعده. الا ان المشكلة الدائرة الآن من حول رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، ان كلا منهما لا يبصر الآخر شريكاً له في الحكم.
الانكى ان واحدهما لا يطيق الثاني، وقد باتت الكراهية عنوان علاقتهما، تتحكم في نظرة احدهما الى الآخر. لفترة، ابان اجتماعاتهما المخيبة، ظهر انطباع رائج ان ما يفرّق احدهما عن الآخر انعدام الثقة. سرعان ما تبدّت المشكلة اكبر بكثير. كل منهما يتصرّف كأنه يخوض معركة وجودية كيانية، اكثر منها صراعاً على تفسير صلاحيات دستورية ومواقع سلطة ونفوذ في الحكم. اقرب ما تكون للاثنين آخر معاركهما السياسية. من ذلك كلام المحيطين بالحريري ان عون يدفع به الى الاعتذار لإخراجه من المعادلة السياسية، وقد تكون شكوكهم في محلها اكثر مما يعتقدون، وكلام المحيطين بعون ان مطالبة اولئك اياه بالاستقالة تتوخى اسقاط العهد وتدمير ما تبقى من سمعته وتحميله مسؤولية ما يحدث وقطع اي صلة بالتفاهم معه.
كلا الرئيسين يُعوّل على عامل الوقت لازاحة الآخر من طريقه، وفي ظن كل منهما ان البقاء للاقوى.