هيام القصيفي – الأخبار
غالبية القيادات السياسية اليوم شاركت في الحرب بطريقة أو بأخرى. بعضها ورث حزباً أو انشقّ عنه، وبعضها ورث عائلة كانت متورّطة في الحرب مباشرة. معظم هؤلاء هم من ضمن منظومة حاكمة كانت الحرب في قلبها وعقلها، فتشرّبوا أسلوب الميليشيات حتى ولو أصبحوا من ضمن السلطة السياسية الرسمية. وممارسة «الميليشيوية» لا تقتصر على السياسيين والأمنيين، فكل صاحب مصلحة في وقت الأزمات يتحوّل نموذجاً عن الميليشيوي الكبير، فتفرخ الأزمات نماذج مشابهة وإن بأحجام مصغّرة. وكما تكشف الأزمات حقيقة الناس وأفعالهم وفضائلهم وسيئاتهم، فإنها تكشف أيضاً أن الحرب بوجوهها لا تزال تعشعش في الكثير من نواحي الحياة، فيستعيدون عاداتهم في وقت الحرب، فيصبحون أكثر خضوعاً للميليشيات أياً كانت هويتها مالية أم اقتصادية أم سياسية. حتى لو حُلت أزمة البنزين موقتاً، فإن ما تكشّفت عنه، مع الأزمات المعيشية الأخرى، يفترض أن يكون تحت المعاينة الاجتماعية الجدية في سلوكيات اللبنانيين.
ما يجري في قطاع المحروقات عمل ميليشيوي بامتياز، ليس بمعنى المسؤولية المباشرة لأصحاب شركات الاستيراد والتوزيع والمحطات عن أزمة البنزين، إنما إدارة الملف من ساعة فتح الاعتماد إلى وقوف السيارات أرتالاً على المحطات.
منذ اللحظة الأولى لبدء الأزمة، بدأت المحسوبيات السياسية في اختيار الشركات النفطية التي تتسلّم البضائع وتفتح لها اعتمادات. لم تعد القضية تحتمل التباسات، هناك محطات تابعة لشركات معروفة محميّة، تشتري محطات أخرى في ظل هذه الأزمة المالية الحادة، فتتجاور محطات من الشركة نفسها تفصل بينها أمتار قليلة، في مقابل محطات تقفل أبوابها ويقبع أصحابها في منازلهم. ثمة شركات ترصد لها الأجهزة العسكرية والأمنية عناصر لحماية محطاتها تماماً كما كانت تفعل مع المصارف، ليس لتأمين السير ومنع الزحمة وتنظيم محاضر الضبط إنما لتأمين عمل المحطات، لأن العناصر المنتشرين ينتمون إلى أكثر من جهاز أمني، وهناك عناصر «تسهّل» تسيير أمور مواطنين على حساب آخرين. وهناك شركات لا تتسلم حصتها إلا حين ترفع صوتها في وجه حاكم مصرف لبنان وتهدده بالإعلام، وهناك شركات تستفيد من حضورها في هذه الأزمة لتعزيز حضورها الانتخابي وحضورها السياسي وتفعيل علاقاتها الحزبية والمناطقية. وهناك مسؤولون وشركات يتجاوبون مع وساطات رؤساء أحزاب بتأمين الأفضلية في مدّ محطات بحسب المناطق وحسب الانتماءات، لأسباب انتخابية (ومشكلة المازوت متشابهة ولو في شكل مغاير ومتنوّع العلاقات والمحسوبيات).
تكتمل دورة ابتزاز مصرف لبنان للشركات الكبيرة وأصحابها، بموافقة أصحاب الشركات على عملية الابتزاز، ومن ثم تنتقل العملية إلى تعامل بعض أصحاب المحطات المحسوبين على جهات رسمية وأمنية مع اللبنانيين، وطريقة تعامل اللبنانيين مع الأزمة، لتصبح الأزمة عبارة عن سلسلة من الفضائح اليومية التي تدل على ظواهر ميليشيوية أجبِر اللبنانيون على المشاركة فيها.
مسؤولو أحزاب ورؤساء بلديات وضباط ومصرفيون تمرّ سياراتهم «ع الخط العسكري»
بعض أصحاب المحطات حوّل محطته مركزاً حزبياً صافياً، فيتشبّه بتعامل زعيم حزبه مع محازبيه، فيحصر السيارات في صف واحد من أصل ثمانٍ، لإبقاء الخطوط الباقية لمحسوبيات أمنية وسياسية وحزبية وعشائرية، وهو يجلس متمتعاً بمنظر الزبائن يقفون بالصف طلباً لرضاه. لا يهدأ هاتفه وهو يتلقى اتصالات من مسؤولي أحزاب ورؤساء بلديات وضباط وأمنيين، ومصرفيين كي تمر سيارتهم «ع الخط العسكري»، من دون الوقوف ساعات في الشمس.
بالأمس افتُتحت بورصة بيع صفيحة البنزين خارج المحطة بثمانين ألف ليرة وانتهت ظهراً بمئة ألف ليرة. في المقابل رفع أصحاب دراجات نارية أسعارهم في بيع المحروقات في سعر موازٍ لسوق الدولار السوداء مع خدمة منزلية. يذهب هؤلاء إلى محطات معروفة، يتعاقدون معها إما عبر مؤسساتهم التجارية ويعملون معها «ديليفيري»، أو تحت ستار العمل مع أجهزة أمنية وحزبية، لتعبئة البنزين ومن ثم بيعه. كل ذلك بعلم بعض أصحاب المحطات وحمايتهم.
لا تتوقف المظاهر الميليشيوية على حلقة المصرف المركزي والشركات والمحطات والقوى الساسية. فبعض اللبنانيين يساهمون في بعض هذه الأوجه. حين يدفع لبناني لسائق بالأجرة مبلغاً مالياً مقابل وقوفه على المحطات ليملأ له سيارته ليس لأسباب العمل بل للخروج في الويك اند والسهر ليلاً (هل تقف بعض وجوه الثورة الإعلامية والسياسية والدينية عند محطات البنزين من الرابعة فجراً؟)، وحين يبادر إلى الاتصال بحزبه ومعارفه لتأمين «تنكة» بنزين، وحين يتباهى لبنانيون بأنهم لم ينقطعوا يوماً من البنزين، كما أنهم لم يقبلوا بلقاح استرازينيكا ليس لأسباب طبية، بل بوصفه أقل شأناً، فهذا يعني أن هؤلاء أيضاً متواطئون. والأسوأ أنهم جميعاً ضد الفساد والفاسدين.