سركيس نعوم- النهار
توقّعت جهات أوروبيّة قبل أسابيع نشوب حربٍ مذهبيّة سُنيّة – شيعيّة في لبنان تنطلق من العاصمة وضواحيها ويُحتمل جدّاً أن تشمل مناطق أخرى إمّا مختلطة وإمّا مُتجاورة. لكنّ توقّعاتها لم تتحقَّق… حتّى الآن. لا يعني ذلك أنّها مستحيلة لكن المُعطيات المُتوافرة عند قادة الشعبين اللّذين يُشكّلان معاً نحو 70 في المئة من اللبنانيّين كما المنطق تستبعد تطوّراً خطيراً كهذا لأسبابٍ عدّة مُهمّة. منها حرص “الثنائيّة الشيعيّة” على تلافي أن تستدرجها جهةٌ أو حليفٌ من داخل لبنان إلى حرب مذهبيّة رغم أنّ في التاريخ البعيد والمتوسَّط والحديث ما يؤكّد التباعد والخوف المُتبادل، وما يُبرِّر التحالفات وإن المثيرة للتساؤل بين كلٍّ من الفريقين وجهات لبنانيّة محليّة وأخرى عربيّة وثالثة إقليميّة ورابعة دوليّة. لعلَّ أكثر ما يُعبِّر عن استبعاد حربٍ كالمذكورة كان الموقف الذي أبلغه مفتي الجمهوريّة الشيخ #محمد دريان إلى سفير دولة عربيّة مُهمّة في لبنان في لقاءٍ ضمّهما في دار الفتوى بُحثت فيه أوضاع لبنان واحتمالات تطوُّرها وفي أيّ اتّجاهات. كانت خلاصة الموقف: “أنا مُستعدّ أن أتخلّى عن عمامة الإفتاء وأجلس في البيت وأن لا أُشارك في دعم أو تأييد أيّ فتنة مذهبيّة سُنيّة – شيعيّة في البلاد.
هناك #وحدة المسلمين ولا بُدّ من المحافظة عليها. وهناك الاستقرار في البلاد ولا بُدّ من المحافظة عليه أو استعادته. كما هناك فقرٌ وجوع. أنا لن أفعل ذلك. وأنا غير مُستعدّ أن أكون “فلاناً” بعمامة (سمّى شخصيّة سُنيّة مُتشدّدة سياسيّاً قد تتسبَّب مواقفها الحادّة بفتنة مذهبيّة) وتالياً لن أرعى حرباً بين المسلمين”. لم يكن المفتي دريان وحده في هذا الموقف. فالرئيس المُكلّف سعد الحريري رئيس “تيار المستقبل” السُنّي يرفض الحرب السُنيّة – الشيعيّة في لبنان. لأنّها تُدمِّر الفريقين معاً، وتُرضي طموحات أفرقاء لبنانيّين يعتبرون أنّ مشكلة لبنان بل مسيحيّيه هي في مُسلميه ليس لعددهم الكبير فقط سُنّة كانوا أو شيعة، بل لأنّهم كانوا دائماً يميلون في أوقات الصراعات الإقليميّة إلى العرب المسلمين وإلى الدعوات الوحدويّة العربيّة، التي تُهدِّد في رأيهم دورهم السياسي المُميّز في لبنان عن أدوار سائر المسيحيّين العرب في دولهم المختلفة. واغتيال والده الرئيس رفيق الحريري عام 2005 بملابساته كلّها والاتّهامات التي وجّهها لبنانيّون سُنّةٌ ودروز ومسيحيّون إلى “حزب الله” لمسؤوليّته عنها في رأيهم، لم يمنع الحريري الإبن رغم استمرار “المحكمة الخاصة بلبنان” في النظر في هذه القضيّة ثمّ بعد الحكم فيها بمسؤوليّة قيادي مسؤول في “الحزب” عن الاغتيال من إجراء ربط نزاع تحوَّل تسوية لاحقاً مع “الحزب”. كما لم يمنع الأخير من التمسُّك به لتأليف الحكومة الجديدة، ومن عدم التجاوب مع حليفه المسيحي منذ 15 سنة العماد ميشال عون و”تيّاره” الذي دعا دائماً وتحديداً منذ “عمليّة 7 أيار” في بيروت إلى حسم الأمور ليس مع الحريري فحسب بل مع السُنّة في البلاد.
كما الذي تبنّى إيديولوجيا نظريّة “تحالف الأقليّات” في العالم العربي ولبنان الذي يضمُّ المسيحيّين والشيعة والعلويّين لمواجهة الغالبيّة السُنيّة فيه، ومعها نظريّة تكوين تحالف لمسيحيّي المشرق يكون مسيحيّو لبنان و”زعيمهم” عون ومن يخلفه على عرش الزعامة المسيحيّة بعد عمرٍ طويل قادته وزعماؤه. طبعاً لا يعني ذلك أنّ سُنّة لبنان وشيعته تنكّروا للخصومة التي فرّقتهما منذ قرون وقرون، أو توصّلوا إلى تسوية وربّما إلى فهمٍ مختلفٍ لأسبابها جعلتهم يعتبرون أنّ إسلامهم كلّهم مُستهدف، وأنّ مصلحتهم في الوحدة لا في الاختلاف. لكنّه يعني أنّ الشعبين الشقيقين يعرفان تمام المعرفة أنّ في الفتنة المؤدّية إلى الاحتراب خراباً لهما معاً. وربّما هذا ما يهدف إليه عددٌ من دُعاة تحالف الأقليّات باعتباره يُعزِّز وضع طوائفهم والمذاهب.
إنطلاقاً من ذلك يرى مُتابعون من قرب وبدقّة للوضع في لبنان أنّ تسعير الخلاف السياسي والمذهبي في الآونة الأخيرة الذي تُشجّعه الحرب الطاحنة لكن بالواسطة بين حليفيهم المُسلمين بالمنطقة أي المملكة العربيّة السعوديّة وحلفائها والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ووكلائها، لن يؤدّي إلى حرب مماثلة في لبنان وباللبنانيّين المسلمين.
طبعاً قد لا يُصدّق لبنانيّون كثيرون ذلك في ظلّ تشدُّد رؤساء الحكومات السابقين سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمّام سلام ونجيب ميقاتي الذين يستطيعون وحدهم جرَّ أبناء مذهبهم إلى الحرب أو إلى التسوية فالسلام، قد لا يُصدّقون أنّ هؤلاء أكثر “حكمة وتعقّلاً” من المتهوّرين في ساحاتهم وخارجها. فهؤلاء أظهروا أخيراً تمايزاً مع مطالب المسيحيّين المُعارضين بقوّة لـ”حزب الله” وسلاحه وسيطرته على الوضع ولا سيّما بعدما اختاروا البطريرك الماروني بشارة الراعي قائداً لهم. فالحياد عندهم يختلف عن حياد المسيحيّين والتدويل أيضاً. السبب حرصهم على تلافي حربٍ مذهبيّة يظنّون ومُسلمون من الفريق الآخر يسعى إليها الآخرون. السبب أيضاً معرفتهم أنّ ما يطلبه #المسيحيّون في العمق ولا سيّما في ما يتعلّق بمستقبل الصيغة والنظام لا يُريحهم وقد يكون على حسابهم.
والسبب ثالثاً هو معرفتهم أنّ السُنّة والشيعة المتساويين ديموغرافيّاً يُشكّلون نحو 70 في المئة من اللبنانيّين، وأنّ مصلحتهم التفاهم في حال كان البديل حرباً طاحنة بينهم يستفيد منها المسيحيّون وإن إلى حين. طبعاً لا يعني ذلك حرمان الآخرين مواقعهم بل دفعهم إلى التعقُّل، بحيث لا يجنّون ويعودون إلى التفكير في المستحيل، وهو استعادة السلطة الواسعة جدّاً في لبنان التي فقدوها بعد حروب 1975 – 1990. وهذا أمرٌ حصل بعد نجاح سوريا الأسد قبل غرقها في الحروب المُتنوّعة التي ضربت وحدتها وهجّرت شعبها في تأسيس تحالف مع “الجنرال” عون في منفاه الباريسي، وتعزَّز بعد تحالف “الجنرال” و”حزب الله”، وسمح له وللأقرب إليه النائب باسيل بالعمل لاستعادة صلاحيّاتٍ لن تعود. طبعاً لن يتخلّى “الحزب” الآن عن عون لكنّه قد يُقدم مع أقطاب السُنّة المذكورين أعلاه على تسوية يقضي أهمُّ ما فيها بالعمل معاً في الحكم وخارجه لتلافي الفتنة ولحكم البلاد بمشاركة الآخرين، ولكن بعد حرمانهم القدرة على التعطيل. والمُتابعون من قرب أنفسهم يُرجّحون أن تكون تمّت “صفقة” أو اتفاقٌ مبدئي بين “الثنائيّة الشيعيّة” والزعامات السُنيّة على هذا الأمر.