في المزاج السني، «نُحّيَ» حزب الله من المرتبة الأولى على لائحة الخصوم، بعدما تربّع عليها منذ عام 2005، لمصلحة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والنائب جبران باسيل. هذا ما أظهرته نتائج استطلاع رأي أجرته إحدى الماكينات الحزبية، أخيراً، قبل شهور من موعد الانتخابات النيابية.

هذا المزاج تستثمِر فيه مراجع سنيّة تأخذ على «العهد» أن قوامه «لاعب رئيسي هو حزب الله، ومعطّل رئيسي هو باسيل»، و«إخلاله بالتوازن الوطني بمحاولته استبعاد الطائفة السنية» و«السطو» على صلاحيات الرئاسة الثالثة. وتقرّ، في الوقت نفسه، بمسؤولية ممثلّي الطائفة عن «الضمور» الذي لحق بدورها لقبولهم بـ«تنازلات» قد تؤدي إلى «خسارة المكتسبات» التي تحقّقت مع إبرام اتفاق الطائف، ولو على حساب أطراف أخرى. في اعتبار هؤلاء، أن الاشتباك السياسي الحالي على الصلاحيات والدستور اليوم، ليس سوى أول ملامح هذه الخسارة.
وبعيداً من بكائيات تخلّي المملكة العربية السعودية عن ممثلها في النظام اللبناني، فإن ما يسمّونه «الاعتداء على السنة»، لم يبدأ مع التسوية الرئاسية التي عقدها الرئيس سعد الحريري عام 2016 مع عون وباسيل، «ولو أن هذا التاريخ كانَ نقطة فاصلة في مسار الانحدار. بل بدأ عام 2011 مع الانقلاب على حكومة الحريري باستقالة الوزراء العشرة». يومها، «كانت الإمكانات المادية والشعبية متوافرة للرد على الانقلاب بانقلاب مضاد، لكن بدلاً من ذلك، حاك الرئيس فؤاد السنيورة تسوية أدت إلى تكليف ميقاتي برئاسة الحكومة، فيما حيّد رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط وقوى في 14 آذار أنفسهم عن المواجهة التي كانت ستبدّل في مسار الأمور». وزاد الأمور سوءاً أن الحريري، اعتمد سياسة «التسويات السريعة» التي لم تخلُ من «تنازلات»، حتى «وصلَ إلى مكان لم يعُد قادراً على كبح جموح شريكه في التسوية». أضف إلى ذلك، «سوء الأداء والإدارة اللذين يتحمل مسؤوليتهما من تعاقب على رئاسة الحكومة منذ 2011، ما أوصلنا إلى الغرق، وإلى الاستسلام الكامل لما يريده باسيل، والتخلي التام عن المواجهات المتاحة مع حزب الله».
بناءً على ذلك، يدور نقاش، حالياً، حول كيفية تدارك «الخسائر»، و«سبُل استرجاع مكانة الطائفة في النظام عبر حماية دور رئاسة الحكومة». يعبّر عن ذلك مراجع وصحافيون وقضاة شرعيون ووسائل إعلام لا يرون سبيلاً إلى حماية «المكتسبات» سوى باعتذار الرئيس المكلف نجيب ميقاتي عن عدم تشكيل الحكومة، وإلقاء «الحرم» على أي شخصية تقبل بالتكليف مكانه، على قاعدة أن «لا تعاون سنياً مع ميشال عون»، و«المواجهة المتاحة» مع العهد عبر فتح معركة إنهاء ولاية رئيس الجمهورية، على أن تكون دار الفتوى التي لم تتخذ قراراً حاسماً بعد ركناً أساسياً في مثل هذه الحملة.
أصحاب «نظرية المواجهات المتاحة» يشرحونها بأنها «كل معركة تحتَ سقف الإستراتيجيا، وهذا بالضبط ما يفعله جبران باسيل. يحيّد كل ما له علاقة بسلاح الحزب أو ما يثير الفتنة، لكنه يستميت من أجل أي ملف داخلي. فيما يحمل رؤساء الحكومات السابقون شعارات أكبر من قدرتهم على التنفيذ، بدل فتح معارك صغيرة يستطيعون انتزاع مكاسب منها». أول غيث «إنقاذ الطائفة»، وفق هؤلاء (عرّابهم النائب نهاد المشنوق)، هو «إعلان العصيان السياسي كسبيل وحيد لاستعادة دور رئاسة الحكومة».
لماذا هذه «الصحوة» الآن؟ بحسب مصادر مطلعة على سير النقاشات، فإن «ممارسات العهد تحتاج إلى خطوات تثير صدمة لدى الأطراف الأخرى وتجبرها على إعادة النظر في السياسات القائمة. ولا يكون ذلك بأقل من الاعتكاف عن المشاركة في أي عملية سياسية لا يكون فيها مكانة وازنة للطائفة». وتلفت إلى أن «الغالبية السنية تشارك في النقاش الذي يقوده السنيورة ورضوان السيد وشخصيات دينية ووطنية، وليس ميقاتي بعيداً من جوّها»، فهي «تضع اعتذاره في قائمة برنامج الحملة لأن الطرف الآخر لن يقبَل بحكومة إلا بشروطه». أما «الأهم فهو إقناع دار الفتوى بتبني الحملة، لما تشكّله من غطاء شرعي يردع الحالمين بالانضمام إلى نادي رؤساء الحكومات عن قبول التكليف».

مصادر دار الفتوى: دريان غير مقتنِع بالفكرة وردّه عليها جاء في خطبة الجمعة قبل أسبوعين

صدى الحملة يلفت النظر إلى حدّ الاعتقاد بأنها على لائحة أولويات المرجعيات في الطائفة السنية، قبلَ أن يتبيّن بأن عدداً منهم، حتى الذين يعارضون عون يرفضونها. فعزل طائفة عن نظام «مشروع خطير لن يعود عليها بخسائر أقل من تلكَ التي دفعها المسيحيون بعدَ اتفاق الطائف، يومَ قرروا المقاطعة». تقول مصادر مطلعة إن مشروعاً بهذا الحجم له ذخيرتان: نظرية، وهو ما يقوم به المشنوق والسيد وأعوان لهما من خلال التسويق للفكرة وأهدافها والدفع في اتجاهها. وعملانية، أي النجاح في استقطاب حشد سياسي وديني وشعبي يغطيها، مشيرة إلى أن «الذخيرة الثانية وهي الأهم في نجاح المشروع، ليست متوافرة».
في البحث عن مواقف المرجعيات في الطائفة السنية يتبيّن حقاً أن عدداً كبيراً منها لا يرفض هذا «الحراك» وحسب، بل يعتبره «مشروعاً مدسوساً».
بداية، أكدت مصادر في دار الفتوى أن «البعض فاتَح المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان بالفكرة، ولا يزال يعمَل على إقناعه بها، من بينهم رضوان السيد»، لافتة إلى أن «المفتي غير مقتنِع، وأول ردّ رسمي عليها جاء في خطبة يوم الجمعة قبلَ أسبوعين حين تحدث عن مباركة دار الفتوى لكل تكليف، فهي لا تميّز بينَ أبنائها».
ثم إن في الطائفة قوى لها حيثية شعبية وسياسية كرستها الانتخابات النيابية الأخيرة. ومن بينها من اسمه مطروح لأن يكون رئيساً مكلفاً في حال اعتذَر ميقاتي. الرأي الغالب عندها، من ضمنهم اللقاء التشاوري، يعتبر بأن «المشروع مجرّد كلام محلّي، لا تغطية خارجية له»، ودستورياً «يمثّل صِفراً». واستغربت المصادر كيفَ «يتحدث هؤلاء باسم الطائفة ويختصرون موقفها، فحتى نادي رؤساء الحكومات لم يعد يمثل. هو في وادي والناس في وادٍ آخر». أكثر ما يريحهم «موقف دار الفتوى الذي يرفض الوقوف كطرف»، إذ يؤكدون بأن «المفتي كانَ واضحاً خلال لقاءات جمعتهم به أنه ليس في هذا الوارد»، متسائلين «هل إخراج الطائفة من النظام ينصف الطائفة، ألم يجرّبه المسيحيون سابقاً وخسروا»؟
ومن هؤلاء من يقر بوجود مشكلة مع العهد «لكن أليسَ الحريري نفسه من كانَ مستعداً لإعطائه الثلث في حكومته الثانية، لولا أن اللقاء التشاوري رفع الصوت وطالب بوزير يمثله». ومن هو «المسؤول عن ضمور دور رئاسة الحكومة، هل هو عون؟ وباسيل؟ أم الذين تعاقبوا عليها وكانوا في عز قوتهم مع جماعاتهم في الإدارات وارتضوا بأن يكونوا الحلقة الأضعف؟».
على الأرجح أن «هناك من يريد أن يرث الحريرية السياسية، لأن ليسَ لها من يرثها حالياً. لذلك يطلق هذه الحملة اليتيمة داخلياً وخارجياً، غير مدرك خطورة مثل هذه المشاريع»، تقول مصادر اللقاء التشاوري. وأشارت إلى أن «منع أحد من قبول التكليف ليسَ سوى تعبير عن تعصّبهم ضد أي شخصية تدخل النادي»، مؤكدة أن «قبول التكليف من عدمه يرتبط باتفاق سياسي مع القوى المعنية بالتشكيل واتفاق على برنامج المرحلة المقبلة».
مثل هذه الدعوة إلى العصيان ليست تفصيلاً، وستثير، في حال تصاعدها، إرباكاً لدى بقية الطوائف التي ستضطر إلى مغادرة مربع الحياد، لإدراكها استحالة استثناء المكوّن الأساس في التركيبة اللبنانية، وخطورة عودة الاصطفاف الطائفي الإسلامي – المسيحي. لكن أين الحريري من كل ذلك؟ رئيس الحكومة السابق، كالمعتاد، يمضي أكثر أيامه خارج البلد. لكن أركان تياره المقيمين ليسوا بعيدين من هذه الأجواء. فوفق مصادر في التيار الأزرق، «المطلوب إعادة صياغة الخريطة السياسية في البلاد، بعدما وصلنا إلى أن رئيس الجمهورية بات يستسهل مخاطبة رئيس حكومة مكلّف عبرَ مدير البروتوكول في القصر الجمهوري، أو حتى عبر درّاج»، لكن أيضاً «المواجهة لا تعني المغامرة بطائفة بكاملها»، والكلام «الذي يصلنا نرد عليه بنقاش سبل أخرى». وتقول المصادر إن «قراراً بمثل هذا الحجم لا يأخذه الحريري وحده ولا أي طرف آخر. بل قرار كهذا يجب أن يُستبق باجتماعات مفتوحة داخل دار الفتوى تحضرها كل المرجعيات، فتكون لها الكلمة الفصل فيها».