زياد عيتاني – أساس ميديا
أجمل ما في صحافة الأسبوع الماضي أنّها سجّلت للمرّة الأولى رقماً قياسياً لم يسبق له مثيل في ذكر مصطلح “أهل السُنّة” أو “السُنّة” أو “السُنّيّة السياسية”. الأمر أفرح قلبي بداية، وأنا أرى مصطلحاً كان الجميع يعمد إلى تغييبه عن قصد في كلّ المقالات أو التعليقات والعناوين لدرجة الشكّ في التآمر على التغييب بهدف الإلغاء. حتّى بات السُنّة أنفسهم يتجنّبون النطق بمصطلح “السُنّة” خوفاً من الاشتباه أو الاتّهام بالإرهاب أو العمالة.
وقد اجتاح الفرح دواخلي عندما أدركتُ أنّ صرخة السُنّة التي تُوِّجت بخطبة الجمعة، التي ألقاها مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان في افتتاح مسجد البساتنة، قد وصلت للجميع. لا بل أكثر من وصولها وسماعها يبدو أنّ الجميع فهمها من دون أن يتفهّمها، وبدأ القلق يعصف به.
اللافت في الكثير ممّا قرأت أنّ بعض ما كُتِب لامس حدّ الافتراء، وكأنّه يواصل فعل التغوّل على سُنّة لبنان، فيما البعض الآخر ناقش المسألة بهدوء ورويّة. إلا أنّ بين النوعين من الكتابة أسئلةً لم تُكتَب، لا بل يبدو أنّها شكّلت الدافع لهذه الماكينة الإعلامية التي تحرّكت، وكأنّها موجّهة من غرفة عمليات موحّدة قالت لكلّ هؤلاء: “اكتبوا”، فكتبوا.
الزملاء، الذين انقضّوا على صرخة السُنّة في لبنان، غاب عن بالهم أنّ التوازن هو توازن وطني وليس سنّيّاً، ولا يمكن تحميل سُنّة لبنان مسؤولية الخلل الحاصل بالتوازن
كانت الأسئلة، وإن لم تُكتب في تلك المقالات، واضحةً ما بين السطور والكلمات: هل السُنّة يغضبون؟ هل السُنّة يتكلّمون؟ هل السُنّة يعترضون؟ هل لدى السُنّة دماء أم ما يجري في عروقهم هو ماء؟
في مقالة الزميل بشارة شربل بجريدة “نداء الوطن”، تحت عنوان: “أهل السنّة” و”أهل الضحايا” انتقاد واضح للسُنّة من بوّابة تفجير المرفأ. وقد غاب عن بال الزميل العزيز أنّ المرفأ هو مرفأ بيروت، وأنّ بيروت التي فُجِّرت يشكّل السُنّة فيها 70%. وبعيداً عن الجغرافيا والديموغرافيا، فإنّ المقالة جاءت بمعظمها انتقاداً لموقف السُنّة من تحقيقات البيطار، ورفضهم مذكّرة الجلب بحقّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب. فيما سطر واحد حملته المقالة انتقاداً لبعبدا وقصرها ومَن يقطن فيه لحمايتهم اللواء طوني صليبا عبر بدعة المجلس الأعلى للدفاع، كما قال الزميل شربل في مقالته التي ختمها: “هي مسؤولية كبرى سيحمل وزرها أهل السُنّة في لبنان، فوقوفهم إلى جانب التحقيق العدلي بلا “لفّ ودوران” يعزّز الشراكة الوطنية، التي تجلّت في التوحّد ضد جريمة 14 شباط، فيما طعنهم حقّ ضحايا النيترات بالظهر يصيب المؤمنين بالشراكة باليأس، ويهدي المتربّصين بوثيقة الوفاق فرصةً ثمينةً لتدمير الصيغة ورسالة لبنان”.
لكن كان على الزميل بشارة أن يعلم أنّ مسؤولية كبرى سيحمل وزرها المسيحيون في لبنان بوقوفهم خلف تسييس وتطييف التحقيق العدلي.
أمّا الزميل شارل جبّور، وفي خاتمة مقالته بجريدة “الجمهورية”، بعنوان “قراءة في واقع السنّيّة السياسية”، يقول: “بناءً على كلّ هذه الأسباب وغيرها، فإنّ الطائفة السنّيّة الكريمة، بدءاً من نادي رؤساء الحكومات، مروراً بتيّار المستقبل، ووصولاً إلى نُخَبِها وكادراتها وشخصيّاتها، مَدعوّة إلى إعادة صياغة دورها الطليعي على قاعدة مشروع وطني يُعيد الاعتبار لشعار “لبنان أوّلاً” على حساب شعار “الصلاحيّات أوّلاً”، وتحالفاتٍ وثيقةٍ تَفتح الباب أمام ولادة جبهة وطنية، وعُمقٍ سعوديٍّ كفيلٍ بمواجهة المدّ الإيراني وضمان سيادة لبنان واستقلاله”.
يضع الزميل جبّور إصبعه على الجرح في ما خصّ أزمة السُنّة في لبنان المتعلّقة بتحالفهم مع باقي الشركاء الذين لا يريدونهم إلا تبعاً لمشاريعهم المسمّى بعضها سيادياً، وبعضها الآخر ممانعاً. وهنا لا بدّ من التذكير، فالذكرى تنفع كلّ إنسان. لم يذهب سُنّة لبنان إلى أيّ اتفاق طائفي جانبي كاتفاق مار مخايل أو اتفاق معراب، ولم يقبل سُنّة لبنان المشاركة في الحكم عبر تاريخهم في غياب أيّ مكوّن أساسي، وتحديداً المكوّن المسيحي، كما حدث مع تمام سلام عام 1992 عندما امتنع عن الترشّح للانتخابات النيابية تضامناً مع شركائه في الوطن، كما قال المسيحيون الذين قاطعوا الانتخابات في حينه. وكما حدث مع سعد الحريري قبل أعوام عندما رفض أن يشكّل حكومة من دون الكتائب والقوات.
الفراغ السياسي لا يقتصر على الفراغ في موقع رئاسة الحكومة. فمنذ أربع سنوات، حلّ الفراغ في موقعيْ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وهذا ما يردّده دائماً النائب المشنوق
السُنّة ما قالوا يوماً “أوعى خيك”، بل كانوا على الدوام متمسّكون بـ”أوعى بلدك”. وهنا نستذكر ما قاله الرئيس الشهيد رفيق الحريري: “ما حدا أكبر من بلده”.
ننتقل إلى مقالة الزميل سامي كليب، التي نشرها على صفحته الفيسبوكية، تحت عنوان: “هل الحريري مسؤول عن إحباط السُّنّة فعلاً؟”. فهو يعترض على “كتّاب سُنّةً يوجهون سهامَ اللوم الى رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في هذا الإحباط بتهمتي: عدم مواجهة حزب الله وإيران، والمسؤولية عن الابتعاد عن السعودية (هذا مثلا ما يكتبه عددٌ من الزملاء في موقع “أساس ميديا” الذي يزداد قُرّاؤه يوما بعد آخر منذ تأسيسه وناشره الوزير السابق نهاد المشنوق. وهذا أيضا ما يكتبه مفكّرون ضليعون بالفكر السياسي والإسلامي والتاريخ مثل د. رضوان السيّد)”.
نتّفق على الكثير من الوقائع في المقالة، لكنّنا نفترق برقيّ عند الخلاصات التي انتهى إليها. فالانقلاب بميزان القوى حصل ما بين عامي 2010 و2021. وهذا أمر واضح للجميع وصحيح. لكنّ ما حدث بمواجهة هذا الانقلاب هو استسلام، فيما كان المطلوب مقاومته. أما الردّ الطبيعي الفطري على أيّ انقلاب فهو المقاومة والمواجهة السياسية. لكنّ ما حدث منذ ذاك الحين كان استسلاماً تامّاً ناجزاً. في الأيام الصعبة ليس مقبولاً أو مطلوباً من الجماعة أو النخبة الخروج بقرارات تقليدية تحت عناوين تقليدية رتيبة تبدأ من السلم الأهلي وتنتهي بـ”أمّ الصبي”. فالأوضاع غير المنطقية ولا التقليدية تتطلّب مواجهتُها قراراتٍ غير تقليدية. والمواجهة المطلوبة لهذا الانقلاب بميزان القوى لم تكن يوماً دعوة إلى مواجهة عسكرية أو أمنيّة بقدر ما هي مواجهة سياسية تستند إلى الدستور والقيم المجتمعية من أجل الحفاظ على السلم الأهليّ.
الزملاء، الذين انقضّوا على صرخة السُنّة في لبنان، غاب عن بالهم أنّ التوازن هو توازن وطني وليس سنّيّاً، ولا يمكن تحميل سُنّة لبنان مسؤولية الخلل الحاصل بالتوازن. فعندما تضمحلّ رئاسة الحكومة حتى تصبح وكأنّها فارغة بالتأثير والدور، فذاك ليس نقصاً سُنّيّاً، بل هو نقص وطني. وكذلك الأمر عندما تضمحلّ لدرجة الفراغ رئاسة الجمهورية، فالأمر ليس مسيحياً، بل هو نقص وطني. والأمر ينسحب على رئاسة مجلس النواب، فاضمحلالها ليس نقصاً شيعياً بل هو نقص وطنيّ.
الفراغ السياسي لا يقتصر على الفراغ في موقع رئاسة الحكومة. فمنذ أربع سنوات، حلّ الفراغ في موقعيْ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وهذا ما يردّده دائماً النائب المشنوق.
في الختام، وكي لا تطول المقالة مع وجود الكثير من الكلام، فعلى الجميع أن يدرك أنّ الشيعة هم حيوية الحياة السياسية في لبنان معارضةً وموالاةً، وأنّ المسيحيين هم حرّاس الكيان، فيما السُنّة هم ضمانة الدولة، فإن سقطت الدولة تصبح الحيويّة من دون طائل، ويصبح الكيان سائباً لغدرات الزمان.
فلْيلتزم كلٌّ منّا دوره الوطني معترفاً بدور الآخر.
آخر الكلمات، شكراً لكلّ مَن كتب، ولكلّ مَن شارك معنا في تحرير مصطلح “سُنّة لبنان”.