لم تعد السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، تخفي توجهات بلادها في الشهرين الأخيرين من ولاية دونالد ترامب. باتت تقول بوضوح إنها ترى ان لبنان محكوم بتحالف من «المافيا والميليشيا»، وإن كل القوى السياسية، حتى تلك «الصديقة» للولايات المتحدة الاميركية، متعايشة مع هيمنة حزب الله، ولا بد من سقوط تلك القوى ليسقط حزب الله. وتضيف أن أي مساعدات لن تأتي من الخارج من دون حدوث تغيير جذري. وعندما يقول بعض من يلتقون السفيرة لها إن ما تقوله يعني سقوط لبنان نحو هوّة الانهيار الشامل، ترد بأن «كلفة التعايش مع حزب الله اكبر من كلفة أي خيار آخر، وليست مسؤوليتنا إنقاذكم إن لم تُنقذوا انفسكم». بعض زوار السفارة يناقشون شيا بأن الضرر الذي سيلحق بحزب الله نتيجة الانهيار الشامل لن يتجاوز نسبة 10 في المئة من الضرر الذي سيلحق بالآخرين، لأن «الحزب أكثر قدرة على إدارة مناطقه» ويستطيع استيراد الادوية والنفط من سوريا وإيران. لكن شيا تعتبر أن هذا الكلام مبالغ فيه.كلام السفيرة يعبّر عن رأي إدارة راحلة قريباً. لكن احداً لا يستطيع ضمان تغيير جوهري في توجهات الإدارة المقبلة. ومن الإشارات السلبية أيضاً، تلك الآتية من باريس. فصحيح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يزال متمسكاً بمبادرته تجاه لبنان إلى حد إصراره على الحضور إلى بيروت قبل نهاية العام الجاري، إلا أن المؤتمر الذي سينظمه تحت عنوان دعم لبنان، على مستوى رئاسي، سيكون مخصصاً حصراً «لتثبيت المساعدات التي أعلِن عنها بعد انفجار المرفأ»، ولن يتضمّن أي إعلان عن مساعدات جديدة، بحسب ما تشير مصادر دبلوماسية متابعة.
هذه الاجواء الدولية «القاتمة»، تقابلها أجواء داخلية أشد قتامة، نتيحة عجز الطبقة الحاكمة عن إدارة الانهيار، وصولاً إلى دخول مرحلة إلغاء الدعم عن السلع الحيوية.
عادة ما يهتز وضع البلد الاقتصادي، أي بلد، تدريجيا وعلى مراحل ربما تمتد لسنوات. الا أن الانهيار اللبناني الشامل دخل سريعا مرحلته الأخيرة في غضون بضعة أشهر. فبعد حجب الدولة كل الخدمات المرتبطة بالاقتصاد وبالحاجات اليومية للمواطن، كان الدعم بمثابة القشة التي يتمسك بها أكثر من نصف الشعب اللبناني للاستمرار بالعيش، برغم الوضع المالي الهش وفقدان الودائع وهبوط قيمة الليرة. لكن من الواضح أن الدعم بصيغته القديمة انتهى أو على وشك الانتهاء، لتبدأ مرحلة جديدة تبشر بفوضى اجتماعية شاملة. يجري الحديث عن رفع الدعم مقابل بطاقات اجتماعية تغطي نحو 600 ألف عائلة لبنانية، تُستعمل لشراء المواد المدعومة. وقُدّرت الكلفة الإجمالية لهذا المشروع بنحو مليار و300 مليون دولار في السنة، الا أن خلافا وقع حول هوية الممول له، الدولة أم مصرف لبنان. فحاكم البنك المركزي رياض سلامة يريد رفع هذا «الهمّ» عن كاهله معتبرا أن مسؤوليته تقع على عاتق الحكومة. وقد بشر اللبنانيين مساء أمس، خلال مقابلته على قناة «العربية – الحدث» أن بامكانه «الابقاء على الدعم لمدة شهرين فقط»، معوّلاً على «ما ستخرج به جلسة اللجان النيابية التي دعا اليها رئيس مجلس النواب نبيه بري اليوم»، أكان ذلك عبر اقتراح «بطاقة اجتماعية أو تأمين موارد أخرى»، كما قال. ولأن سلامة يعتقد أن الأموال المودعة في مصرف لبنان بمثابة خزنته الخاصة، شكا رمي كل التمويل من كهرباء الى ماء الى بنزين وقمح وغيره على المصرف سائلا: «هل فقط هناك مصرف لبنان، سؤال ينبغي طرحه على المسؤولين بالبلد». كلام الحاكم يتقاطع مع ما أبلغه لرئيس الجمهورية ميشال عون عن قدرته على التصرف بنحو مليار ونصف مليار دولار فقط، وبعدها ينفض يديه من الأزمة التي أوجدها بنفسه. وهو في هذا السياق متفائل بزيادة المصارف لرساميلها مع بداية العام الجديد طبقا للتعاميم التي سبق له اصدارها في آب الماضي والتي منحت المصارف مهلة 6 أشهر لزيادة رساميلها.

مؤتمر الدعم في باريس سيكتفي بـ«إحصاء» المساعدات المعلنة بعد انفجار المرفأ

وسط ذلك كله، جرى تأجيل اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي كان مقررا اليوم للبحث في آليات الدعم خلال الفترة المقبلة، ومن المرجح أن يكون السبب انتظار ما ستؤول اليه جلسة اللجان النيابية المشتركة اليوم لنيل الغطاء اللازم قبل اتخاذ أي قرار مصيري. على أن آراء نائبي الحاكم سليم شاهين وبشير يقظان تؤيد إلغاء الدعم وتحرير سعر صرف الليرة بذريعة ان «السوق ستصحح نفسها بنفسها لاحقاً؟»! اما زميلهما في نيابة الحاكم ألكسندر موراديان فلا رأي له ليقدمه، فيما يؤثر النائب الاول وسيم منصوري الابقاء على موقفه ضبابيا مع انحياز لصالح رفع الدعم وسحب فتيل القنبلة من المصرف لرميها عند الحكومة على اعتبار أن هذه المسألة ليست من مسؤولية البنك المركزي أصلا. علما أن قانون النقد والتسليف حدد للمصرف دورا واضحاً في ادارة التضخم وحماية النقد والاقتصاد. غير أن ما يجري حاليا لا يعدو كونه مخططاً احتيالياً جديداً لحماية أموال كبار المودعين على حساب كل الناس، ويجري تغليفه بمظهر «انساني» يتعلق بعدم امكانية التصرف بالاحتياطي الالزامي الذي يتكون من أموال المودعين، في حين تمّ تبديد أكثر من 100 مليار دولار من هذه الأموال من دون أن يرف جفن للحاكم أو أي مسؤول. يتذرّع مؤيدو رفع الدعم بأموال المودعين، من دون ان يكترثوا لمعيشة أكثر من 50 في المئة من السكان المصنفين فقراء، بشهادة دولية، عبر رفع الدعم عن الدواء والقمح والمحروقات من دون توفير أي بديل جدّي وعادل لهم. فحتى الساعة، كل حديث عن بطاقة اجتماعية لا يصرف في بلد عجز عن تحديد العائلات الأكثر فقرا غداة الاغلاق الأول لجائحة «كورونا».
وما استرسال البعض في شرح آلية غربلة المحتاجين عبر هيئة إدارة السير (النافعة) للكشف عن عدد السيارات المستعملة في كل منزل وثمن كل منها سوى مجرد طروحات عبثية لا تستند الى أي مسوّغ علمي. وهنا، يفترض طرح سؤال رئيسي عما حال دون مناقشة هذه الأفكار والمشاريع منذ أشهر مع بداية الحديث عن رفع الدعم، ولماذا جرى الاستخفاف بملف يتعلق بحياة الناس وقدرتهم على العيش وتأمين المستلزمات الضرورية لأسرهم؟ فتم ترحيل النقاش الى حين الدخول في حال الطوارئ ليطبخ الحل سريعا بالطريقة التي يريدها هؤلاء والتي تتناسب ومصالح مصرف لبنان والمصارف والسياسيين ومن يمثلون الـ1% في البلد؟ ولماذا جرى هدر ملايين الدولارات على سلة غذائية كان الهدف الظاهري منها تخفيف الفاتورة الشرائية على المواطن، فانتهت بخدمة التجار والمحتكرين؟
ما سبق يقود الى طرح علامات استفهام كثيرة حول دور بري في ما يحصل واصراره على زجّ المجلس النيابي في ما يفترض أن يكون من مهام الحكومة، الا اذا كان القصد من اجتماع اللجان فرض مشروع قانون لدعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة. أما اذا لم تأت الجلسة بتشريعات تخدم الصالح العام، فإنها تسعى باطنيا الى تغطية قرار سلامة برفع الدعم أو ما تروّج له الكتل النيابية بـ«ترشيد الدعم»، لكن من دون خطة واضحة. وليس أداء بري طوال الفترة الماضية منفصلا عن مسار التوأمة مع سلامة بدءا باسقاط خطة التعافي المالي الحكومية مرورا باسقاط قانون الكابيتال كونترول وصولا الى توسيع دائرة التدقيق الجنائي للاطاحة به.

شيا تعتبر ان غالبية القوى السياسية متعايشة مع «هيمنة حزب الله»

في هذا السياق، أتت رسالة وزير المال غازي وزني الى سلامة أمس، لتؤكد المسعى الرئيسي بدفن التدقيق عبر ابتداع شروط ظاهرها «اصلاحي» وباطنها لا يخدم الا فساد سلامة والتغطية على هدر أموال المودعين والناس. فقد تمنى وزني «تنفيذ قرار مجلس النواب، وإخضاع جميع حسابات الإدارات العامة للتدقيق المحاسبي الجنائي وذلك وفقا للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ومع حفظ حقوق الدولة لأي جهة كانت». ولم يأت الأخير على ذكر الحسابات المتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف، حاصرا المشكلة بحسابات الدولة التي أنجزت في عهد الوزير علي حسن خليل والموجودة في ديوان المحاسبة، أي أنها لا تحتاج الى التدقيق فيها ولا الى قانون خاص لتسليمها، بخلاف امارة سلامة التي يتعذر الدخول الى دهاليزها.


سعر الدواء سيتضاعف خمس مرات!
«رايحين عفوضى اجتماعية عارمة، وبدايتها رح تكون من القطاع الصحي»، يقول رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاصم عراجي. لن يكون الأمر قبل انهيار المؤسسات الضامنة، بما فيها مؤسسات الجيش وقوى الأمن. هذه المؤسسات تصرف سنوياً نحو 500 مليار ليرة على الدواء. في حال رفع الدعم، سيتضاعف الرقم 5 مرات ليلامس 2500 مليار ليرة. سينسحب الأمر على سعر الدواء الذي سيصبح ثمنه أغلى بخمسة أضعاف، ما سيضع حياة عشرات الآلاف على المحك وخصوصاً من يعانون من أمراض مستعصية وضغط وسكري وقلب. من جهة أخرى، يشدد عراجي على ضرورة «ترشيد الدعم» بمعنى تخفيض عدد الأدوية المدعومة والتي لا يخدم إبقاؤها على لائحة الدعم سوى التجار. ثمة خطة سريعة برفع الدعم عن الأدوية «البراند» التي يمكن الاستعاضة عنها بأدوية «جينيريك»، وهنا يصبح شراء «البراند» بالسعر الأعلى خيار المستهلك. يفترض بتلك الخطة أن تترافق مع منع تهريب الدواء. إلا أن عراجي متشائم ويبشر بكارثة كبيرة ستفجر البلد. فالاجتماعات مع اللجنة الوزارية منذ أشهر غير مجدية وتسعى إلى حماية أرباح التجار وكأن شيئاً لم يتغيّر.