كتبت جويل رياشي في “الأنباء الكويتية”:
حسمت غالبية اللبنانيين أمرها لجهة الخروج الكامل من النظام المصرفي بأقل اضرار ممكنة، بعد بلوغ اهتزاز الثقة حدا غير مسبوق بالنسبة الى ميزة كانت خاصة بلبنان في الشرق عبر نظامه المصرفي.
صحيح ان البلاد شهدت أزمة سيولة في 1966 انتهت بإفلاس بنك إنترا، الا ان التدفقات المالية العربية عادت بقوة الى المصارف اللبنانية حتى بعد الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1967.
وعلى الرغم من أعوام الحرب الأهلية (1975 – 1990)، احتفظت الليرة اللبنانية بقوتها الشرائية أمام سعر صرف الدولار الأميركي، حتى مع اهتزازها في القسم الأول من بداية ثمانينيات القرن الماضي في عهد الرئيس أمين الجميل، وتخطي سعر صرف الدولار الأميركي عتبة الثلاث ليرات، في رحلة أحادية باتجاه واحد صعودا. استقر سعر صرف الليرة لاحقا، رغم «ثورة الإطارات» في 1992 التي أطاحت بحكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، ومهدت الطريق للرئيس الراحل رفيق الحريري الى السرايا بعد فترة انتقالية مع الرئيس الراحل رشيد الصلح. وقتذاك لامس سعر صرف الدولار عتبة الثلاثة آلاف ليرة قبل ان يعود ليتم تثبيته على سعر 1515 ليرة لأقل من ثلاثة عقود.
حصل الاعلان الرسمي عن الانهيار العام الماضي مع اندلاع احتجاجات 17 أكتوبر غير المسبوقة في تاريخ البلاد، والتي رسمت معها المصارف اللبنانية ما عرف بحقبة «ما قبل 17 أكتوبر» حيث جمدت الودائع بالدولار الأميركي، وأتيح لمن حصل على دولارات سميت بـ«الطازجة» بعد ذلك التاريخ سحبها نقدا من المصارف.
تتشعب القصص حول خسائر المودعين وتوزعها بين أموال نقدية محتجزة، وتعثر تنفيذ مشاريع وإتمامها، مع بلوغ سعر صرف العملة الوطنية انهيارا غير مسبوق بملامسة الدولار عتبة العشرة آلاف ليرة، ومراوحته حاليا بين ثمانية آلاف وثمانية آلاف وخمسمائة ليرة.
ولعل اهتزاز الثقة يعود في شكل كبير الى فرض المصارف قيودا على سحوبات المودعين على اختلاف أنواعهم، وتقليصها الى حدود شح الحصول على ليرات لبنانية نقدية، بالكاد تكفي المواطنين لتلبية احتياجاتهم من مواد التموين من أكل وشرب ومحروقات. قلة التقطت طريق الخلاص سريعا، بإنفاق ما تيسر من مدخرات مصرفية وحفظ العملات الأجنبية النقدية. فيما ذهب قسم لا بأس به مع اشتداد الأزمة الى الإقبال على شراء العقارات، واستبدال النقد في المصارف بصكوك عقارية، وبعدها انتقلوا الى مرحلة الإقبال على شراء الوحدات السكنية، المتاح استخدامها في شكل أسرع من العقارات، والتي لا تحتاج الى مزيد من المصاريف المالية لجعلها في الخدمة، اي تحصيل عائدات مالية منها عبر تأجيرها او بيعها.
الأخطر في عمليات تحصيل اثمان عمليات البيع النقدية من شقق وعقارات، انها تتم خارج النظام المصرفي اللبناني، بتولي الشاري تسديد الثمن النقدي للبائع، مع تفادي الأخير إدخال الأموال الى المصارف، مفضلا حفظها في منزله، او تحويلها الى الخارج. وبات الكثير من عمليات البيع يتم بين زبائن من المقيمين في بلدان الانتشار العربية والأفريقية وصولا الى الأميركيتين وأستراليا، وبين مقيمين يبيعون مقابل تحويلات مالية الى مصارف خارجية.
اما المصارف المالية اللبنانية فتتفرج، وتشهد على عمليات باتجاه واحد لا غير: السحب من قبل المودعين بما توافر من طرق، سواء عبر شيكات مصرفية مضمونة مسحوبة على المصرف المركزي ولا تدفع الا في لبنان، او بتحويلات من حسابات داخلية الى أخرى محلية. باختصار لا سيولة تدخل الى صناديق المصارف من قبل المودعين، عدا تلك التي يقوم الدائنون بتسديدها بالعملة الوطنية، او بالدولارات غير النقدية، والتي باتت تعرف بـ«دولارات الشاشات المصرفية».
واذا كانت نهاية 2019 وسنة 2020 كاملة شهدتا أزمة مالية خانقة وانهيارا للقطاع المصرفي، فإن 2021 مرشحة لتكون سنة «التصفيات المصرفية»، مع مبادرة عدد من المصرف الى اقفال فروع لها في المناطق، بالتوازي مع ما يرافق ذلك من صرف للموظفين، وهذا الأمر نشط بقوة في الشهرين الأخيرين، مع قيام مصارف بالتخلي عن قسم من الموظفين، و«شراء سكوتهم» بتعويضات تعتبر سخية للمصروفين ناهزت العشرين شهرا، وتسدد قيمتها على سعر صرف المنصة المعتمدة من مصرف لبنان، أي زهاء أربعة آلاف ليرة للدولار الأميركي.
تداول اللبنانيون منذ فترة نكتة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها ان سيدة دخلت الى أحد المصارف وطلبت من الموظف الجالس خلف الكونتوار «نصف كيلو لبنة وصنفان من الأجبان البلدية ». ولما رد الموظف مستغربا: «نحن في مصرف وليس في سوبر ماركت»، أجابته السيدة بهدوء: «وماذا تقدمون انتم من خدمات مصرفية للزبائن؟».