منير الربيع – المدن
والصراع هذا يدفع الناس -كي يحصِّلوا حقوقهم- إلى مواجهات ومبارزات في ما بينهم، فيتطاعنون ويطعنون أنفسهم. فتُبرر السرقة ويُبرر النهب، ويغلفان بانشغالات وصراعات وجودية كبيرة. انشغالات بالدفاع عن الوجود والطائفة والحزب والمرجع، ولو كان الجهاد ببطون فارغة ورؤوس خاوية.
أساطين الصراعات
وطويت صفحة تشكيل الحكومة. والطريق إلى جهنم صارت سالكة:
حسان دياب يبحث عن فرصة للنجاة والقفز من المركب المحطم قبل غرقه. سعد الحريري غارق في حسابات انتخابية، يريد من خلالها تحقيق توازن سياسي في حملة مركزة ضد رئيس الجمهورية. حتى لو اقتضى ذلك خسارة الجميع، والاستقالة من المجلس النيابي تمهيداً لانتخابات نيابية مبكرة.
وميشال عون يريد أن يسجن الجميع، ويخوض مواجهة جهنمية أو سياسة أرض محروقة. وهو يمتلك أسلحة كثيرة وانتحاريين كثر: من القضاء إلى المال.
هكذا يغرق لبنان في فوضى الصراع الشعبوي، وفي التسابق بين المتحمسين للاستقالة من المجلس النيابي والإطاحة به لتغيير الأكثرية، أو لإسقاط تكليف رئيس الحكومة. وللفوضى هذه مدخل واحد: الجمود القاتل، وصلب اللبنانيين على الأرصفة أمام أجهزة الصرف الآلية، والصيدليات، ومخازن التموين، ومحطات الوقود، وربما قريباً أمام الأفران.
والمسرح الهزلي
والجمود السياسي غير قابل للتغيّر، إلا بدبيب الفوضى. وشرارة بسيطة يمكن أن تشعل حريقاً كبيراً. كمثل قرار مجلس شورى الدولة، ورد المصرف المركزي والمصارف. أما اللقاءات والاجتماعات التي عقدت وستعقد، فغير قابلة لإيجاد حلول.
ووسط دبيب الفوضى يجري تنميط الناس وتطبيعهم مع حال مرضية على مثال “ستوكهولم سيندروم” (التعاطف مع الخاطف أو الهيام بالجلاد). ومنها ادعاء رئيس الجمهورية أنه عقد اجتماعاً لإعادة الأمور إلى نصابها: أي سحب المودعين أموالهم على سعر 3900، وربما البحث لاحقاً في رفع التسعيرة إلى 7000 ليرة، فيما السعر الحقيقي للدولار فوق 13 ألف ليرة. وبهذه الطريقة من المسرح الهزلي يجري إشعار اللبنانيين بالانتصار، فيما هم يتعرضون للسرقة والنهب.
تسابق إلى الاستقالة
هذه النماذج الهزلية قابلة للتعمم ونشر الفوضى على نطاق أوسع. فوضى تضغط على رئيس الجمهورية والرئيس المكلف والذي قد يجد نفسه في مواجهة الاعتذار. مع العلم أنه يرفض رفضاً قاطعاً أن يعتذر تحت ضغط الشارع.
أفكار كثيرة يقال أنها تُناقش: استقالة من المجلس النيابي، الاستمرار في الحرب الإعلامية والإعلانية بين تيار المستقبل والتيار العوني، وتسابقهما إلى تلك الخطوة، وتدارس كل منهما ارتداداتها ونتائجها وانعكاسها على الوضع الشعبي والجماهيري.
الحماسة فائرة لدى الطرفين. ولكن لكل منهما حساباته الخطيرة: ألا تصل الاستقالة النيابية إلى مبتغاها، فيستأثر الطرف الآخر بالقرار التشريعي، على إيقاع حروب القضاء وفتح الملفات وتهم الفساد.
غطاء لحزب الله
لقد وصل الطرفان إلى سن اليأس السياسي. وهما يرفضان النهاية الماثلة. كل منهما يبحث عن وسائل لتجديد شبابه، وإثبات حضوره داخلياً ودولياً، ولو اقتضى ذلك إشعال حريق. وهما بلغا عجزهما الكامل على مرأى العالم ومسمعه. والعالم يتفرج على مهازلهم وتدهور الأحوال، والتمادي في الانهيار على وقع استحقاقات دولية وإقليمية.
أقوى المراهنين على تلك الاستحقاقات هو حزب الله، فيما يحاول جبران باسيل البقاء في جلبابه، باحثاً عن نصر أو تعويم، على اعتبار أن محور حزب الله هو الرابح. ويحاول باسيل الاستقواء على الحريري، بتوفيره غطاءً شعبياً مسيحياً للحزب إياه.
وهذا لن توفره لحزب الله البيئة السنية. فهي بعد كل ما جرى في لبنان وسوريا، غير قابلة لتشكيل حضن آمن للحزب. وهنا سيكون حزب الله أمام استحقاق المفاضلة بين الحفاظ على العلاقة بعون وباسيل، وعدم خسارة الحريري الذي قبل أن يخسر شارعه وخسر الكثير سابقاً، بسبب الحزب إياه، مع العلم أنه يتعاطى بواقعية مع هذا الأمر.
لكنها واقعية تفتقد إلى مبادرة سياسية تبقيه ممسكاً بالأوراق في يديه، ليكون صانع الحدث بما يتجاوز الجمهور أو عواطفه. يعيش اللبنانيون مآسٍ كبرى، يستثمر فيها كثيرون في الداخل. أما الخارج فينتظر متغيرات لا يبدو أنها جاهزة. والأخطر أن لبنان بات بلا قدرة على التحمل والانتظار.