تقول رواية الفاتيكان الرسمية، على لسان وزير خارجيتها بول غالاغر، إن الدعوة التي وجهها الكرسي الرسولي الى القادة الروحيين المسيحيين في لبنان، جاءت بناءً على طلبات وجهها الى البابا فرنسيس عدد من هؤلاء القادة. وتقول رواية بكركي ومستشاريها إن الدعوة جاءت بناءً على طلب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي «تناغم معه الفاتيكان بمبادراته لإنقاذ لبنان»! في المقابل، ثمة رواية تنقلها مصادر كنسية رفيعة عن أن الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية وراء الدعوة البابوية، وأن أحد رجال الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية الكبار، نقل الى البابا أجواء الوضع اللبناني الداخلي بحقيقته، وخطورته، وما ينعكس على مستقبل أبنائه، في ظل الاوضاع السياسية والاقتصادية، وما يمكن أن تقوم به الكنائس من أجل مبادرات فاعلة. وهذه الخطوة النوعية تسجل للكنيسة الأرمنية والكاثوليكوس آرام الاول الذي تربطه علاقة جيدة مع البابا، وسبق أن التقاه ودعاه الى توحيد عيد الفصح، خصوصاً أن الدعوة أتت متزامنة مع النداء الذي أطلقته لجنة مجالس أساقفة المجموعة الاوروبية لمساعدة لبنان.
من هنا كانت لافتةً محاولةُ بعض مَن في الكنيسة المارونية قطف ثمار هذه الدعوة، والالتفاف عليها، معبّراً عن استيائه الشديد منها ومن الذين كانوا وراءها، حتى إن جواً وصل من بكركي الى روما تحدث عن «أن الفاتيكان يسحب البساط من تحت قدمي بكركي تجاه الكنائس الأخرى». ولذلك، تسعى بكركي إلى استقطاب المشاركين حولها، قبل أن يحين موعد الاجتماع، رغم أنها ليست صاحبة الدعوة، بل تلقّتها مثلها مثل الكنائس الأخرى. والفاتيكان، ومجلس الكنائس الشرقية، هما اللذان بدآ يعلنان رسمياً قائمة الذين أكدوا الحضور حتى الآن، والذين سيغيبون ومن سيوفدون ممثلين عنهم، بخلاف ما يحاول بعض مَن في بكركي القيام به. ومنذ اللحظة الاولى، بدا اهتمام الفاتيكان بحضور ممثلي الكنائس الذين يلبّون الدعوة ككنائس شرقية، وهذه إشارة مهمة في لقاء روحي على هذا المستوى، علماً بأن البابا حرص على التواصل مع هذه الكنائس أكثر من مرة، في حين أن الكنائس التي تتبع التقويم الغربي من الطبيعي أن تشارك، لكونها تابعة للكرسي الرسولي.
في العادة، تكون الكنيسة المارونية «رأس حربة» في الفاتيكان، ولها دور أساسي نتيجة دورها التاريخي في لبنان والعلاقة القديمة مع الكرسي الرسولي، ونتيجة وجود ماروني فاعل في دوائره. وهي التي قادت الكنائس الكاثوليكية بحضور ومشاركة الكنائس الاخرى والطوائف الاسلامية الى عقد السينودوس من أجل لبنان، وما خلص اليه الإرشاد الرسولي. لكنها اليوم تتحول في إحدى أكثر اللحظات المصيرية من تاريخ لبنان، إلى مدعوّة كغيرها، وفي خضم سلسلة مآخذ عليها. وقد سبق أن تخطى الفاتيكان دورها أيضاً عام 2012 مع الإعداد للسينودوس من أجل مسيحيي الشرق الاوسط وزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر للبنان. وبكركي تحاول كل مرة نفي تردّي علاقتها بالبابا فرنسيس الذي لا يكنّ وداً للبطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بعدما استطاعت تقزيم الاستدعاء الفاتكياني لها في إطار زيارة «الاعتاب الرسولية» عام 2018، من ضمن حملة البابا الاصلاحية، بفضل تدخل أحد رجال الأعمال الكبار مع عميد المجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري. لكن في الآونة الأخيرة، باتت دوائر الفاتيكان تعرف جيداً حجم ما يصلها من شكاوى سياسية ودينية على أداء أساقفة ورجال دين ومؤسسات كنسية ورهبانية وتعيينات فيها روائح فضائح مالية وكلام عن فساد في الكنيسة في لبنان وخارجه. وتعرف كنيسة لبنان جيداً أن البابا الذي لم يصطحب الراعي معه الى العراق، تحدث خلال الرحلة عن رغبته في المجيء الى لبنان، لكنه لن يزوره هذه السنة، وهو ما لمّح إليه أيضاً وزير خارجيته، وليس السبب عدم وجود حكومة فيه كما قال الراعي أخيراً.
كيف ستقدّم بكركي دورَها للفاتيكان، وهي التي تحوّلت إلى مدافعة عن المصارف التي سرقت أموال المودعين؟
من هنا يمكن طرح الأسئلة عمّا سيحمله البطاركة الى الفاتيكان، إذا كان برنامج العمل الذي حدده – عدا عن الصلاة – يتعلق بالبحث في «الوضع المعقد على المستويات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية كافة». فهل سيحملون معهم حقيقة ما يعيشه اللبنانيون، فضلاً عن الشعارات، من تفاقم الازمات السياسية والاقتصادية الحادة، وما يتبع ذلك من نزف وهجرة، كأحد البنود الاساسية في السينودوس من أجل مسيحيي الشرق. وماذا ستقدم بكركي التي تسعى – منذ أن أطلق البطريرك الراعي سلسلة مبادرات – للإيحاء بأن خطواتها منسّقة فاتيكانياً، وأن البابا يبارك هذه التحركات التي سقطت ولم تؤدّ إلى أي نتيجة. إضافة الى أن تدخل بكركي في تفاصيل تأليف الحكومة والكلام عن تسمية وزراء وتشكيلات حكومية رفعت اليها، قلّل من شأن الموقع البطريركي وأدخله في زواريب تعيينات مقربين ومحظيين لديه. فأيّ مطالعة ستقدّمها بكركي عن دورها في إيجاد حلول للأزمة السياسية والمالية والاجتماعية وهي المحاطة بمجموعة من السياسيين ورجال الاعمال والمال، وبعدما تحولت إلى أحد أبرز المدافعين عن المصارف الذين سرقوا أموال المودعين، وعن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهو ما قام به الراعي في محطات عديدة، منذ بدء انهيار الليرة منذ أكثر من سنة ونصف السنة؟
والأهم من كل ذلك، كيف ستتمكن بكركي من إقناع الفاتيكان باستعادة دورها وموقعها الريادي، بما يتناسب مع تاريخها، لا الزواريب السياسية التي أدخلت نفسها بها، قبل أن تتوصل وإياه الى مناقشة ما يمكن للفاتيكان والكنائس الشرقية والغربية تقديمه لبحث معمق أكثر في جذور الأزمة اللبنانية وإيجاد حلول لها، وسط الترتيبات الإقليمية الموضوعة على الطاولة؟