رضوان السيد – أساس ميديا
وسط الظلام المخيِّم على المواطنين وعلى الوطن بزغت مبادرة البطريرك الراعي ذات المقولات الثلاث: تحرير الشرعية، والحياد، والمؤتمر الدولي من أجل لبنان. ومنذ الأيام الأولى لخطاب البطريرك الأوّل، سارع السياسيون السُنّة والمثقّفون السُنّة إلى زيارة بكركي، والتصريح منها مؤيِّدين وداعمين بدون تردّدٍ ولا حساسياتٍ من أيّ نوع.
فقد حرَّك لديهم العنوان الأوّل للمبادرة، أي تحرير الشرعية، اقتناعهم العريق والعميق بالشرعيّات الثلاث القائمة على العيش المشترك والتجربة الوطنية على مدى مائة عام: الشرعية الدستورية (وثيقة الوفاق الوطني والدستور)، والشرعية العربية (الانتماء إلى الجامعة العربية، ونظام المصلحة العربية)، والشرعية الدولية (عضويّة الأمم المتّحدة، والقرارات المتّخذة في مجلس الأمن لحماية لبنان من الأخطار الخارجية والداخلية). وهذه الشرعيّات معطَّلة الآن.
إذ هَمُّ رئيس الجمهورية وحزبه التيّار الوطني الحر تعديل الدستور أو إلغاؤه. وقد كانت لاختراقات الدستور والخروج عليه، دماراتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، ليس أقلّها وقوع سياساتِ لبنان الداخلية والخارجية رهينة ً بيد المحور الإيراني وحزبه المسلَّح. بحيث صار ضرورياً العودة إلى “الحياد”، الذي يضمنه الدستور، لجهة التوازن الوطني، ولجهة العلاقة الطليقة بالعالم المعاصر. ومَن الذي يتكفّل بهذه الانطلاقة التحرّرية والتحريرية؟ بالطبع المجتمع الدولي الذي حمى لبنان على الدوام بقراراته للتحرّر من الاحتلالات، التي تأتي من الخارج، والاختلالات التي تُحدثُها الغَلَبة الداخلية لفريقٍ على فريق. وهكذا فإنّ البطريرك الراعي اعتبر المؤتمر الدولي مُعيناً وضامناً للحياد وللخروج من العزلة التي فرضها على لبنان الفريقان: الحزب المسلَّح، والتيار العوني. وقد كان هذا الانعزال القسْريّ والمنحاز علّة العلل في الانهيار الحاصل على كل المستويات، وفي إبعاد العرب والعالم عن لبنان.
هَمُّ رئيس الجمهورية وحزبه التيّار الوطني الحر تعديل الدستور أو إلغاؤه. وقد كانت لاختراقات الدستور والخروج عليه، دماراتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، ليس أقلّها وقوع سياساتِ لبنان الداخلية والخارجية رهينة ً بيد المحور الإيراني وحزبه المسلَّح
لقد بدأتُ هذه المقالة بموقف السُنّة من مبادرة البطريرك، ليس لأنّ الفئات الوطنية الأُخرى لم تعلن تأييدها للمبادرة. بل إنّ معظم السياسيين المسيحيين، أفراداً وأحزاباً، أعلنوا تأييدهم لها. لكنّه تأييدٌ عامٌّ سببه الموقع الديني والوطني التاريخي والحاضر لبكركي وسيّدها، بدليل أنّهم، باستثناء قلّةٍ منهم، عندما صار الأمر على المحكّ تجاهلوا أو تنكّروا. منهم من تنكّر للدستور، الذي هو أساس كل الشرعيات. ومنهم من تنكّر لمتطلّبات تحرير الشرعية ومستلزماته: إقامة حكومة غير حزبية من المتخصّصين لوقف الانهيار، وللخروج إلى العالم من أجل ذلك. فكيف يقوم النظام السياسي بدون سلطةٍ تنفيذيةٍ قوية وقادرة وغير خاضعة للمحاصصة والغلبة والانشلال؟
موقف الرئيس ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل وفقهاء القانون عندهما، من الوزير السابق سليم جريصاتي إلى القاضية غادة عون، من الدستور وحكم القانون، معروف. وموقف “الثوّار” الأشاوس من الدستور ومن النظام معروفٌ أيضاً، لكنْ أين هو موقف أو مواقف الجهات المسيحية الفاعلة والمحترفة من الدستور ومن ضرورة وجود حكومة في البلاد، سبق لمجلس النواب أن كلَّف رئيساً بتشكيلها في الاستشارات الملزمة؟
فمَن يقوم بالإصلاحات، ومَن يذهب باتجاه الحياد، وباتجاه المجتمع الدولي، وباتجاه استعادة حكم القانون، إن لم تكن في البلاد حكومة؟! حتّى الانتخابات المبكرة أو المتأخّرة، مَنْ يشترع لها ويشرف على إجرائها؟!
إنّ الصدق مع مبادرة البطريرك، بكل مفرداتها، يقتضي الإنصاف والحكمة، وقبل ذلك وبعده: الشجاعة. وما أجمع على ذلك غير السُنّة بمجموعهم وبأفرادهم. وبالطبع ما كان إجماعهم لأنّ رئيس الحكومة سُنّيّ، فالدكتور حسان دياب سنّيّ على سنّ ورُمح، وما دَعَمه سنيٌّ معتبرٌ، لأنّ حكومته حكومة اللون الواحد، وما كانت لها مواقف وسياساتٌ لحماية الدستور من تغوّل الرئيس وصحبه، ولا لوقف الانهيار أو مخاطبة العرب والعالم من أجل الإنقاذ.
موقف الرئيس ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل وفقهاء القانون عندهما، من الوزير السابق سليم جريصاتي إلى القاضية غادة عون، من الدستور وحكم القانون، معروف
والشخصيات السياسية السُنّية في تاريخ لبنان المعاصر أخطأت مثل غيرها بالطبع، إذ لا تتوافر العصمة للسياسيين بالذات من كل الأديان والطوائف. لكنّ ثلاثةً من رؤساء الحكومة السُنّة استُشهدوا، واثنان ذهبا إلى المنفى، والمفتي حسن خالد استُشهد. وكلُّ ذلك بسبب التمسّك بالعيش المشترك والميثاق الوطني، ووثيقة الوفاق الوطني، والدستور. وعندما أدّى السُنّة هذه الشهادة الشجاعة لمبادرة البطريرك، فلأنّه بالشجاعة والحكمة وإرادة الإنقاذ ركّز على استعادة الوعي بمقتضيات العيش المشترك والدستور وتحرير لبنان من أسر الشرعية وارتهاناتها الحاضرة.
أصول الموقف المسيحي الحاضر تمضي إلى ما هو أبعد من الطائف وأقدم. فمنذ السبعينيات من القرن الماضي، وفي خضمّ النزاع الداخلي الذي صار حرباً أهليّة، سيطرت راديكاليتان سياسيّتان في أوساط المسيحيين والشيعة. وكانت نُذُر ذلك قد حدثت في انتخابات عام 1968، كما هو معروف. وانتصرت الراديكاليّتان لدى الطائفتين في أوساط رأيهما العامّ، ثمّ ظهر ذلك في الانتخابات بعد الحرب. والراديكاليتان انكماشيّتان. لدى المسيحيين للحفاظ على لبنان من الغرباء، ولدى الشيعة بداعي المظلوميّة في النظام، وبداعي قضية الجنوب مع إسرائيل. وعندما صار في المنطقة مشروعٌ إيرانيٌّ، ما فقدت الراديكالية الشيعية خصوصيّتها، لكنّها صارت استيلائيةً أيضاً. وهذا هو الأمر في كل موطن تسيطر فيه الأقلّية عسكرياً. فالعلويّون في سورية استولوا على المشروع القومي من السُنّة باعتبارهم أكثر أمانةً له وعليه من الأكثرية السُنّية المتخاذلة أو المتآمرة مع الاستعمار وإسرائيل(!) ولذلك ينبغي أن تبقى السلطة في أيديهم. أمّا الراديكالية المسيحية فصارت انكماشيةً أكثر، وصار المطلوب الحفاظ على حقوق المسيحيين التي تنكّر لها اتفاق الطائف في اعتقادهم. فكل تطوّر أو شبهة تغيير في النظام، يتحوّل في الوعي الراديكالي للأقلّية إلى خطرٍ وجوديٍّ، ويحتاج الأمر إلى منقذ. وعلى ذلك، كان الرئيس بشير الجميّل، وهو الذي صار إليه نموذج الجنرال، ثمّ الرئيس عون.
سمعتُ للمرّة الأولى عن آراء الجنرال ميشال عون بالسُنّة وبالعرب عام 2007 من وزير العدل الأسبق، ومن الدكتور فارس سعيْد، من دون أن يذكرا لي المناسبة أو الواقعة التي اقتضت ذلك. ثمّ تبيّن أخيراً أنّ الآراء “التنويرية” تلك كانت في حديثٍ مع السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان. الراديكالية الأقلّوية تلك هي التي بحثت دائماً، لا عن حلفاء، بل عن حُماة. وقد حاولت، كما هو معروف، مع إسرائيل ومع سورية الأسد، ثمّ مع الجنرال عون عندما أنجز تحالف الحماية مع حزب الله وإيران والنظام السوري في عهود الأسد الابن. هذا هو أساس فكرة تحالف الأقلّيات، وهي عملية حاصلة حتى الآن، وما كانت نتائجها حميدة أبداً، لا على المسيحيين، ولا على لبنان.
أصول الموقف المسيحي الحاضر تمضي إلى ما هو أبعد من الطائف وأقدم. فمنذ السبعينيات من القرن الماضي، وفي خضمّ النزاع الداخلي الذي صار حرباً أهليّة، سيطرت راديكاليتان سياسيّتان في أوساط المسيحيين والشيعة
البطريرك بشارة الراعي كان ولا يزال أكثر حرصاً على وجود المسيحيين وحقوقهم من الجنرال والرئيس ميشال عون. لكنّه رأى أنّ المسيحيين، ومعهم لبنان كلّه، يسقطان بسرعةٍ في جهنّم الجنرال، وهاوية الحزب المسلّح. راح المرفأ، واحتُجز المطار، واستُبيحت الحدود، وتداعت المؤسسات، وانهارت الجامعات والمستشفيات والمدارس والليرة اللبنانية، والجهازان القضائي والدبلوماسي، وعَيْش كل الناس. ولأوّل مرّةٍ في تاريخ لبنان الحديث يكون رئيس الجمهورية خصماً لقائد الجيش الماروني ولحاكم المصرف المركزي الماروني، ولقطاع المصارف المسيحي في غالبيّته. فما معنى حقوق المسيحيين في هذا المخاض الهائل الذي علا فيه صوت الفساد وانقطاع الكهرباء ونفاد الموادّ الأساسية؟
ولذلك كلّه كانت نداءات البطريرك لتحرير الشرعية، وللحياد، ولإقامة حكومة بدون محاصصةٍ وتقاسم، وللخلاص من السلاح غير الشرعي، لكي يبقى لبنان ويبقى المسيحيون فيه بدلاً من الاغتراب والمهاجر.
لقد أطلْتُ في الحديث عن المتغيّرات لدى الطوائف الأُخرى، لأعودَ إلى موقف أهل السُنّة ومتغيّراته. أهل السُنّة لا يزالون على موقفهم الذي عبّروا عنه في بيان أو إعلان الثوابت العشر من دار الفتوى عام 1983. وإنّهم بالفعل مع دستور الطائف، وشرعيات النظام اللبناني. ولا يزالون يرون أنّ الحلَّ الوطني يتمثّل في سلطة الدولة الكاملة على أرضها ومرافقها وحدودها، وفي حكم القانون، وفي العيش المشترك الذي أخلَّ به قانون الانتخابات، وأُجريت بحسبه انتخابات عام 2018.
أين حدث الاختلال إذن؟
ما بدأ الاختلال عندهم وإنّما انتهى إليهم. فالراديكالية الشيعية صارت استيلائية وتحكّمت بلبنان، والراديكالية المسيحية (وهي الآن عونيّة بالدرجة الأولى) شرعنت للحزب المسلَّح بحجّة الحماية من إسرائيل، وبحجّة مكافحة الإرهاب، وبحجّة أنّ سلاحه لا يُستعمل بالداخل! وكلّها حجج داحضةٌ، كما هو معروف. وفي مقابل إذابة الدولة في الدويلة، أمَّل العونيون الاستيلاء على الوظائف والأجهزة والأسلاك، والإثراء السريع، فانهار كل شيء تحت الوطأتيْن الحزبية والعونية، وهم يحملون الآن راية الإصلاح الجذريّ، ولا إصلاح إلاّ بإزالة سلاح الحزب، ودخول العونيين السجون.
وبعيداً عن شكوى بعض أهل السُنّة، وتذمّرهم، والإحساس بقلّة الحيلة، وحسدهم للطائفتيْن المسيطرتيْن، وقد كتبتُ عن ذلك كثيراً، وفعل ذلك كثيرون غيري، فإنّ الاختلال الحاصل تسرّب إليهم، لكنّه لم يتمكّن منهم. فعند السُنّة راديكاليون، لكنّهم قلّة، والأكثرية السُنّية ذات اعتدال. والقلّة الثائرة والمُحبَطة هي التي تتمنّى التشبّه بالحزبيّين المسلَّحين، وبالعونية الراديكالية.
ما أزال أذكر شعاريْ الرئيس الراحل صائب سلام: “لبنان واحد لا لبنانان”، و”التفهّم والتفاهم”. القيادات السياسية السُنّية لا تزال تؤمن بالتفاوض والتسويات السياسية والإدارية.
فهل لا يزال الوقت يسمح؟