
شهرُ حزيران/يونيو سيّئ للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. في حزيران 2023، وصلت قوات يفغيني بريغوجين المتمرّدة إلى مشارف العاصمة موسكو مجتازة نحو 700 كيلومتر من مدينة روستوف أون دون. لا أحد في روسيا توقّع الهجوم. ولا أحد استطاع صدّه؛ إلى أن قرّر بريغوجين وقف الهجوم لأسباب لا تزال مجهولة إلى حد كبير.
بعد نحو عامين، تهاجم أوكرانيا أربع قواعد جوّيّة روسيّة تحتضن قاذفات استراتيجيّة. من هذه القواعد ما يبعد عن الحدود أكثر من 4 آلاف كيلومتر مثل قاعدة “بيلايا”، بينما تقع قاعدة “أولينيا” في الدائرة القطبيّة الشماليّة.
خرق كبير
انطلق هجوم المسيّرات من الداخل الروسيّ، عبر شاحنات كبيرة حملت كابينات خشبيّة. توقّفت الشاحنات بالقرب من القواعد الجوّيّة. حين دقّت الساعة، فُتحت الأسقف لتطير منها الطائرات بلا طيّار. مجدّداً، لم يتوقّع أحد الهجوم الذي تبنّته أوكرانيا. وعلى ما يبدو، لم تستطع روسيا صدّ القسم الأكبر منه.
قال الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي إنّ “مكتب” العمليّة كان قريباً من أحد مقرّات جهاز الأمن الفيدراليّ الروسيّ “إف إس بي” في إحدى مناطقهم. قد يكون الادّعاء صحيحاً، أو للمضايقة الإعلاميّة. وضع الخطّة جهاز الأمن الداخليّ الأوكراني “إس بي يو” تحت إشراف زيلينسكي على مدى عام ونصف العام وتسعة أيام، تحت مسمى “شبكة العنكبوت”. يبدو أنّ الدبّ علِق فيها.
قال جهاز الأمن الداخليّ الأوكرانيّ “إس بي يو” إنّه دمّر نحو ثلث القاذفات الروسيّة. حتى بوجود مبالغة في الادّعاء، تعدّ الضربة قاسية بالنسبة إلى القوّة الجوّيّة الروسيّة. فالكثير من القاذفات قديم وخرج عن خطّ الإنتاج، والاستبدال بالنّسخ الأحدث، “تو-160″، يتمّ بوتيرة “جليديّة” كما كتبت مجلّة “إيكونوميست”. وتضرّرت أيضاً طائرة تجسّسية مخصّصة للإنذار المبكر من طراز “إيه-50”. وهناك اللاتماثل في الأكلاف: مئات الملايين أو مليارات الدولارات (أوكرانيا تقول 7 مليار)، مقابل ربما نحو مئة ألف دولار كلفة 117 مسيّرة من منظور الشخص الأول (FPV).
وإذا صحّ كلام زيلينسكي عن أن أوكرانيا نجحت في سحب عملائها من الأراضي الروسية قبل يوم الأحد (قالت روسيا إنّها قبضت على سائق شاحنة)، فسيمثّل ذلك دلالة إضافيّة على سهولة إدارة كييف عمليّاتها داخل روسيا. ونجحت أوكرانيا قبل ذلك باغتيال جنرالات روس في العاصمة الروسيّة. وتقع قاعدتان أخريان مستهدفتان، دياغيليفو وإيفانوفو، على بعد 200 و300 كيلومتر من موسكو. وهذا يعني أنّ أوكرانيا خاضت عمليّتها عبر مناطق زمنيّة عدّة.
حجم التأثير على الميدان
لن يكون لهذا الهجوم انعكاس كبير على مجريات الحرب. بمعنى آخر، سيستطيع الدبّ الروسيّ الإفلات من “نسيج العنكبوت”. لكن ليس من دون أضرار قريبة وربما بعيدة المدى. كما كتب الباحث البارز في “معهد أبحاث السياسة الخارجية” روب لي على “أكس”، سبق أن استهدفت أوكرانيا قاذفات استراتيجيّة وقواعد جوّيّة في روسيا من دون تأثير كبير على الحرب، إضافة إلى أنّ الرّكن الجوّيّ هو الأضعف من بين الأركان النوويّة الثلاثة لروسيا. لكنّه لفت النظر إلى أنّ الهجوم سيدهور إمكانات روسيا في إطلاق صواريخ “كروز” وسيضطرّها إلى إبعاد أصولها العسكريّة عن الحدود.
مع ذلك، ثمّة سؤال عن نطاق “هذا الإبعاد”. في نهاية المطاف، إنّ قاعدة بيلايا في سيبيريا أقرب إلى اليابان منها إلى أوكرانيا. وهناك تقارير عن شاحنة كانت متجهة إلى قاعدة عسكرية قرب الحدود مع الصين في منطقة آمور، لكنّها اشتعلت قبل إطلاق مسيّراتها، بحسب “معهد دراسة الحرب”.طبعاً، لن تستطيع أوكرانيا دوماً استهداف العمق الروسيّ عبر توغلات بعيدة بهذا الشكل. لكن كلّما طال أمد الحرب، ستتمكّن أوكرانيا من تطوير مسيّراتها بشكل أكبر، ومن تطوير أساليب هجماتها تكتيكيّاً. يأتي ذلك بعد تقارير ألمانيّة عن مساعدة برلين لكييف في المستقبل على تطوير صواريخ قد يصل مداها إلى 2500 كيلومتر.
ووافق ضابط أوكرانيّ سابق يدير موقع “فرونتيليجنس إنسايت” على أنّ الضّربة الأخيرة لن تؤثّر على الحرب، لكنّه أضاف بحسب “فايننشال تايمز” أنّها “تقلّص إمكانات روسيا الاستراتيجيّة مما يعني تقليص القدرة على نشر قوّتها عالمياً”. فبحسب رأيه، لا ينظر الجنرالات الروس إلى مسرح واحد فقط عندما يخطّطون للحروب، بل يقيّمون أيضاً كيف ينشرون الإرادة السياسيّة للقيادة.
“بيرل هاربور روسيا”
قالت قناة “رايبار” الروسيّة المؤيّدة للحرب والتي تحظى بمتابعة أكثر من مليون شخص عبر “تلغرام” إنّ الهجوم مثّل “ضربة ثقيلة جداً” على روسيا. وكتب مدوّنون آخرون للحرب في روسا أنّ الهجوم مثّل “بيرل هاربور” الخاص ببلادهم مطالبين أن يكون ردّها مشابهاً للردّ الأميركيّ على الهجوم اليابانيّ ضد هاواي في الحرب العالمية الثانية.
ولا يبدو أنّ روسيا قادرة على الذهاب بعيداً الآن في انتقامها. غالباً ما كانت موسكو تعمد إلى الرد على العمليّات النوعيّة الأوكرانيّة من خلال تكثيف هجمات الصواريخ والطائرات بلا طيار. لكن ذلك أضحى خطوة شبه معتادة من قواعد الحرب الروسيّة، خصوصاً في الأسابيع القليلة الماضية. بهذا المعنى، قد تكون الضربات الروسيّة المتوقّعة جزءاً من خطط معدّة سلفاً. بالتالي، قد لا تكون روسيا قادرة على تحقيق مفاجأة موازية للمفاجأة الأوكرانية، بالحدّ الأدنى، في الأيّام والأسابيع القليلة المقبلة.