منير الربيع – المدن
على أكثر من صورة ينقسم المشهد في لبنان. الصورة الأولى لحزب الله ما بعد اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، وإطلالة نائبه الشيخ نعيم قاسم.
الصورة الثانية، للبنان الرسمي المتمثل برئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، والتنسيق المفتوح بينهما.
الصورة الثالثة، للمساعي والتحركات الدولية والديبلوماسية، وما يتخللها من عروض وتحذيرات. الصورة الرابعة، لمشاهد الحشود العسكرية الإسرائيلية على الحدود، ومواصلة الغارات وتكثيف العمليات والتحضير لاجتياح برّي.
ما بين هذه الصور والحاضرين فيها، اختلافات وفروقات كثيرة، لكن أهم انقسام فيها هو ما بين الرؤية اللبنانية من جهة، والرؤية الإسرائيلية من جهة ثانية؟
رؤية اسرائيل
تبدو إسرائيل متقدمة جداً في طموحاتها وجموحها، تفكّر في مرحلة بعيدة جداً عن ما هو الواقع عليه اليوم. فيتحدث رئيس وزرائها عن تغيير وجه المنطقة استراتيجياً، ويواصل إطلاق تهديداته لإيران، وكأنه لم يقف عند حدود لبنان أو اليمن أو سوريا، بل ربما يستعد لتوسيع نشاطه باتجاه إيران التي لا يبرح يؤكد أنه يواجهها ويواجه مشروعها. وذلك لا ينفصل عن تصريحات إسرائيلية كثيرة حول مواجهة “رأس الأخطبوط”، وفق مصطلحاتهم المستخدمة. من يفكّر بهذه الطريقة لا يعني أنه في وارد النزول إلى أرض واقع يريد تغييره. وكل ذلك يشير إلى أن نتنياهو ماض في حروبه وتوسيعها، وخصوصاً في لبنان. إذ يتجاهل كل الضغوط التي تمارس عليه، ويعيد تكرار السيناريو نفسه الذي اعتمده في قطاع غزة.
واقع لبنان
أما لبنان، فيبدو أنه لا يزال يتعاطى بواقعية “سابقة”، أو ربما لم يلحق حتى الآن في ما يرمي إليه العدو. كل الآليات التي يقترحها لبنان حول وقف إطلاق النار، تطبيق القرار الدولي 1701، والبحث عن تسويات ومخارج بالرهان على قوى إقليمية ودولية، لا تبدو أنها ناجعة في تجنّب الحرب. وذلك يمكن أن يظهر بالعودة إلى نقاط وإشارات كثيرة. أولاً، عدم وجود مواقف حقيقية وجدية تسعى إلى وقف الحرب، حتى التحرك الأميركي لا يبدو مضموناً لبنانياً، وهناك استنتاج أن إسرائيل لم تكن لتقدم على ما تقوم به من دون غطاء معين، بغض النظر عن المساعي الديبلوماسية الأميركية.
ثانياً، لا وجود لموقف عربي حاسم في هذا المجال. أما ثالثاً، فلطالما طرحت القوى الإقليمية والدولية على اللبنانيين إحداث تغيير جوهري واستراتيجي في المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما واصل اللبنانيون الالتفاف عليه منذ ما قبل الانهيار المالي والاقتصادي، إلى ما بعد انفجار المرفأ وإجهاض المبادرة الفرنسية وغيرها من المبادرات.. وصولاً إلى الوقوع في حالة من العزلة، ليضاف إليها اندلاع الحرب الإسرائيلية على المنطقة ككل، بعد عملية طوفان الأقصى.
بين “الحزب” والدولة
داخل لبنان المشهد ينقسم أيضاً، فنعيم قاسم أعلن الاستمرار على الخطّ نفسه في مواصلة الجهاد والقتال والاستعداد لمعركة طويلة ومواصلة إسناد غزة. وذلك ما تتجهز له إسرائيل أيضاً. في مقابل موقف الحزب، برز موقف رئيسيّ مجلس النواب والحكومة في السعي وراء حلّ ديبلوماسي.
حسب المعلومات، فإن القوى الدولية طلبت من لبنان -ديبلوماسياً- أن يعلن موقفاً صريحاً حول استعداده لتطبيق القرار الدولي 1701، والاستعداد لانتخاب رئيس توافقي إصلاحي يعيد تشكيل السلطة. أرفقت هذه النصائح بتحذيرات كبيرة مما يحضر له الإسرائيليون. أقدم لبنان الرسمي على خوض اللعبة حتى النهاية بالرهان على الديبلوماسية، لكن ما يراه اللبنانيون مخرجاً وهو القرار 1701، لا يراه الإسرائيليون كذلك، وهم الذين يتحدثون عن القرار 1559 ونزع السلاح، أو انتهاز فرصة يعتبرونها تاريخية لإضعاف حزب الله وإنهاء الحالة العسكرية في الجنوب.
على عاتق برّي
حاول لبنان التقاط الإشارات الدولية بوقف النار وإنتاج سلطة جديدة، مع وعود دولية بالمساهمة والمساعدة في حال النجاح بذلك. وهو ما فتح الباب أمام إعادة طرح الملف الرئاسي من بوابة الدعوة إلى جلسة انتخابية سريعة وانتخاب رئيس توافقي لا يمثّل تحدياً لأحد. وهي رسالة موجهة للداخل والخارج، وربما تتلاقى مع الرسائل التي وصلت إلى لبنان. كل ذلك يلقي المزيد من المسؤوليات على عاتق رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يواجه تحديات كثيرة، أبرزها الوضع العسكري في الجنوب والبقاع والضاحية، والوضع الشعبي، بالإضافة إلى دوره التفاوضي مع حزب الله وعنه مع القوى الدولية.
ما يقتنع به اللبنانيون أيضاً أن في إسرائيل شخصية انتهازية إلى أقصى الحدود، تتركز فيها كل طبائع المكر، فما إن يتلمس مسعى ديبلوماسياً، أو تفاوضاً جدياً، حتى يسارع إلى جعله ملهاة لمن يفترض بهم يفاوضونه، ويتجهز للانقضاض على فريسة جديدة. ذلك يتحسب له اللبنانيون جيداً، إذ لا يغيب عن بالهم إمكانية إقدامه على التصعيد العسكري إلى ما هو أبعد وأوسع مما هو عليه الوضع حالياً، طمعاً في تحقيق المزيد، وسعياً وراء مكاسب أكبر وتغييراً للتوازنات. وهو لطالما تحدّث عن تغيير موازين القوى لإنتاج تحالفات جديدة على مستوى المنطقة.
غالباً، لا تتغير الموازين إلا بالعمليات العسكرية، والتي يريد لها أن تطول، وهو الذي يراهن على انتخاب دونالد ترامب، وأخذ خريطة الطريق الواضحة من المقالة التي نشرها جاريد كوشنر حول “عدم إضاعة الفرصة التاريخية”، وترك إسرائيل تواصل عملياتها العسكرية في المنطقة ما بعد اغتيال نصرالله، لتغيير وجهتها.