في كتابها “أحلام الرايخ الثالث” جمعت عالمة النفس الألمانية، شارلوت بيرات، إبان صعود النازية، عدداً من أحلامها وأحلام مواطنيها، واحتفظت برواياتهم الكتابية والشفهية، إلى حين غادرت ألمانيا منفيّة.
كانت بيرات مهتمة بإضفاء الطابع العلمي على منهجها، وحريصة على نشر الأحلام التي توثّق سرديات أرّخت لتأثيرات النازية في النفوس، من خلال الأحلام الليلية التي “تمليها الديكتاتورية”. لذلك كانت حذرة في عملها. وكان أسلوبها صارماً، إنْ في طريقة جمعها، أو في توقيتها، أو تحرّيها عن صدق الحالمين، والانتباه إلى تعديلاتهم وتحويراتهم المقصودة وغير المقصودة. لذلك تخبرنا أنها كانت أحياناً تخفي مبتغاها الحقيقي عنهم، حين تلاحظ توجسهم وتردّدهم في الحكي، وهم الذين يعيشون في ظل نظام قادر على التطفّل على الحياة النفسية الحميمية لرعاياه، وإزالة الحدود بين العام والخاص. وتشهد بعض النصوص النازية على اهتمام القادة الواضح بالتدخّل حتى في الأحلام. وهكذا يكتب غوبلز في كتابه “الكفاح من أجل برلين” عن الحاجة إلى نقش اسم الحزب، أو نقش مبادئه في أدمغة الجميع، إلى درجة تلاوتها في أحلامهم. ورغم أن السلطات كانت تسيطر بقواتها وحرسها في الصباح، على الناس في بيوتهم وطرقاتهم وأعمالهم، وعلى السجناء والمعتقلين في زنازينهم، إلا أن الليل كان يطلق أحلامهم من قيودها النهارية. وهذا ما دفع الزعيم النازي روبرت لي إلى القول: “الشخص الوحيد في ألمانيا الذي لديه حياة خاصة هو الذي ينام”.
إنّ نهج شارلوت بيرات يتيح لنا الوصول إلى فكرة أنّ العمل النفسي الذي ينجزه الحالمون، يجعل هذه الأحلام تحمل آثار الاغتراب الشمولي، وفي الوقت عينه تحاول مكافحته. وبمجرد أن يكون لدى الذات إمكانية تمثيل حلمها، وروايته لنفسها، وإخباره للآخرين، فإنها بذلك تحوّل المسألة إلى موضوع مشاركة، وانتقال من حالة التلقي السلبي، إلى حالة إيجابية تسهم في تعزيز موقفها من الحياة، ورفضها الخضوع لإملاءت السلطة الطاغية.
وبيرات تمكنت من إضفاء بُعد جماعي على مشروعها، من خلال عمل انتقالي أعادت فيه بناء رحلة معاكسة الى حد ما لرحلة النازية، تتجه من الداخل الى الخارج، ومن الحميم الخاص والسري، إلى الحقل العمومي والعلني.
وبناء عليه، حملت أوراقها لنشرها في الخارج، بعدما أخفتها عند أصدقاء شيوعيين. وهي حصيلة جهد استغرق ست سنوات محفوفة بالمخاطر التي كان يشكلها النظام النازي. وقد قامت بمراجعة الأحلام قبل طبعها، واضطرت للدفاع عن منحاها التأويلي، الذي كان مختلفاً عن المنظور الفرويدي الكاسح في أوساط المحللين النفسيين. واختارت من الحالمين الذين جمعت أحلامهم، فئة لم يلتفت اليها فرويد، حسب رأيها، وهي أحلام العمال والفلاحين. إذ انصبّ اهتمامه على أحلام الطبقات الاجتماعية البورجوازية. بينما توجّهت هي إلى الطبقات الشعبية المهمشة: مثل بائع الحليب، والخيّاط، ومدبّرة المنزل، وبائع الخضار، وعامل المكتب، والمدرّس، والصحافي، وسواهم، ممن لديهم تجارب قاسية، ويعيشون “حياة بلا جدران” بسبب الاضطهاد اليومي، والرعب الذي يخيم عليهم.
الحلم وثيقة
وقد وصل الأمر بالمؤرخ الألماني رينهارت كوسليك، إلى اعتبار الحلم الشخصي وثيقة، أو شهادة تتيح الوصول إلى طبقات من الخبرة التي لا توفرها لنا، حتى صفحات مذكرات شخصية محفوظة بدقة.
فالنظرة إلى الأحلام ليست منفصلة عن أنظمة سياسية شمولية، أو أشكال أخرى من المراقبة أو السيطرة التي يهدف من خلالها الطغاةُ والمتحكّمون إلى إخضاع الحياة الداخلية للناس لضرورات تثبيت السلطة. أو ما تسميه حنا ارندت، وهي في مقام الحديث عن النازية والستالينية “الهيمنة المطلقة والمغلقة” التي لا يترك إغلاقها مجالاً لأي خارج، او لأي شكل من أشكال الآخر المختلف، مهما كانت إمكانياته وحدوده. وبذلك تُخضع المخيلةُ الأحادية الكاملة حياةَ الروح والفكر والأحلام لمنطقها الذاتي المقفل. حيث إنّ الأحلام بعفويتها الناجمة عن اللاوعي، تجسد أكثر المظاهر غير القابلة لاختزال الحياة الداخلية والتي ترفض الاختفاء. وهكذا فإنّ الغموض وتعقيد العديد من الأحلام التي تتداخل مع طبقات مختلفة من المعاني الفردية والاجتماعية المنشورة أو المحجوبة خلف الصور، تجعل المواد المتنوعة والمختلفة، وأحياناً المتضادة، مصدراً صعباً لتوضيح مغزاها العميق. لكنّ إبداع العمل الحلمي يقدٌم مع ذلك صورة حية لقوته الخاصة، واحتياطاً من الطاقة والأمل لمواجهة الظلم، عند من أُجبروا على العيش والتكيّف مع أنظمة العنف والقتل. يفتح الحلم مكاناً في زمن القهر، ويقدم للحالم صوراً يمكن من خلالها التعرّف على رغبته في استعادة حياته المفقودة.
الليل ليس انقطاعاً مؤقتاً للقمع
ومن خلال الكشف عن قوة الحلم، تأخذ تجربة الاعتقال معنى حقيقة جديدة، تتملص من قانون السلطة. فالليل ليس انقطاعاً مؤقتاً للقمع والكبت، بل هو عنصر ضروري لإعادة تكوين قوة الحياة عند السجناء والمعتقلين. إنه يبني في قلب الحاضر المستسلم بالكامل للعنف نافذة للخلاص، ويمنحه دليلاً على انسانيته غير القابلة للتدمير. وبالنسبة للشاعر الفرنسي جون كايرول الذي عانى مرارة المعتقلات النازية، فإنّ الحالم لديه هو سيد حلمه، وإنّ إنسانية السجين هي التي تستيقظ، وهو نائم. وتكشف محنة المعتقلات عن وجود ذاكرة ماثلة أمام كل معتقل تُذكّره بوجوده وديمومته. “أنا احلم اذاً انا موجود”. وبدون الذاكرة يغدو حاضر السجن لا يُطاق. فاستدعاء الماضي استراتيجيةُ دفاع وعزاء ضد حدث المعتقل، وطريقةٌ لضمان الاستمرارية، ورغم ما يحصل من معاناة وضغوط، يظل عقل المعتقل مسكوناً بما كان عليه سابقاً. الجسد ممدد هنا على الأرض، لكنّ العقل موجود في مكان آخر. كل مساء ينسحب السجين من العالم الذي خلقه معذبوه، وينبثق لديه الحلم كهدية وهِبة لا تقدران بثمن. لقد أُخذ منه كل شيء، يكتب كايرول، لكنه احتفظ بالأساسي “الحلم” وبفضله يحدث الانتصار على القانون النهاري. وهكذا يخون الليل قوات الأمن وحراسه، ويغدو الحلم هذا الخيط الدقيق الذي يحافظ على الذات، وإمكانية تماسكها واستمرارية هويتها، وبقائها على قيد الحياة. فالليل ليس انقطاعاً مؤقتاً للقمع، بل هو عنصر ضروري لإعادة تكوين قوة الحياة لدى السجناء. إنه يفتح في قلب الحاضر المستسلم بالكامل للعنف، زماناً آخر، هو زمان الأحلام والاحتماء فيها.
وقد سلّط الروائي الألباني اسماعيل كاداريه الضوء على هذا الرابط بين الأحلام والسياسة، حيث يتخيّل المؤلف في روايته “قصر الأحلام” إدارة شرطة في داخل مملكة يحكمها ديكتاتور يخشى من أحلام مواطنيه، فيأمر الشرطة أن تصادرها، وأن تتولى جمعها وفرزها وتفسيرها وحفظها في ملفات أرشيفية. وبهذه الطريقة يُنتزع الحالمون من نومهم، لتتمكّن السلطة الخارقة من تطويق أي تمرد قبل حدوثه، أو قبل أي انحراف، أو خروج عن السياق المرسوم الذي حددته لرعاياها. بيد أنّ إحدى شخصيات الرواية تُبدي رغم كل العوائق والحواجز، تفاؤلها بيوم تظهر فيه هذه الأحلام، في وضح النهار، وتأخذ مكانها في فكر الإنسان وخبرته وعمله، وتزوّده بالإرادة واليقين.
محمد ملص
والمُلاحظ أن الأدباء والباحثين العرب غائبون عن استلهام هذه الموضوعات، ولم يتداولوها من قريب أو بعيد، أو ربما لم تتسن لي الإحاطة الشاملة بنصوص روائية أو بحثية، تتناول التجارب الحلمية لمواطنين مأزومين، ما برحوا يعيشون تحت وطأة أنظمة استبدادية، لا تقل شراسة عما عهدته الشعوب الأوروبية التي وقعت بين براثن النازية. بل لم تلتفت فئة المثقفين في الداخل الفلسطيني، إلى ما أحدثه الاحتلال الإسرائيلي العنيف والدموي، من رضّات وضغوط وأعراض مرضية، تُرجمت في الليالي المدلهمّة أحلاماً مزعجة، تشكّل للباحث المادة الأساسية التي ينبغي قراءتها، في ضوء الكشوفات السيكولوجية والعصبية الحديثة، واعتبارها شواهد ومستندات حية، عن تدهور الصحة النفسية عند الفلسطينيين صغاراً وكباراً. و لا بدّ هنا من أنْ ننوّه بمحاولة محمد ملص في شريطه السينمائي المنام عام ١٩٨٧ ( ٤٥ دقيقة) الذي يدور حول أحلام فلسطينيي الشتات الموجودين في لبنان. أحلام تبدو أشبه باستعادة ذاكرة منسوجة من ملامح الآباء والأجداد الذين قُتلوا أو ماتوا، وعادوا إلى الأرض ليبشروا الحالمين من أنسبائهم بعودتهم القريبة إلى بلادهم فلسطين، أكثر من كونها ثمرة تجارب ومعاناة ذاقوا مرارتها في الفم، وحُرقتها في القلب.