ما حدث في الأيام الأخيرة في قصر العدل وخارجه، وأحاله للمرة الأولى إلى متراس سياسي، عاكس سلفاً البيان اللاحق لمجلس القضاء الأعلى: كان بين القاضيين بالذات، وجزءاً من نزاع قائم متواصل بين السياسة والقضاء، وبين تيارين سياسيين ليس خافياً ما دام القاضيان تولى تعيينهما في منصبَيهما مرجعيتاهما السياسيتان. هو فوق ذلك وليد اللحظة، ونتيجة ملف في ظل تداخل القضائي بالسياسي والسياسي بالقضائي.
بإصدار المجلس نفيه الدوافع والتفسيرات تلك، أكد المؤكد، وانخرط في الاشتباك السياسي: بتبنّيه قرار القاضي غسان عويدات في 15 نيسان إعادة توزيع مهمات المدعي العام الاستئنافي وطلبه منها الامتثال له، ثم بدعوتها إلى المثول أمام هيئة التفتيش القضائي، والدخول تالياً في هذا التوقيت على الأزمة الحكومية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، يوم تقابل شارعا القاضيين – للمفارقة أن لكل منهما الآن شارعاً – وجهاً لوجه أمام قصر العدل. كل منهما يدعم أحد القاضيين، ويجزم بانتمائه إلى خطه السياسي، ما أذِن بالوصول إلى إنذار خطير أوحيا به، وكانا موشكين على المواجهة: شارع إسلامي في مواجهة شارع مسيحي، كما العكس. فوق ذلك كله، لا يسَع أحد عاقل فصل ما حدث بين القاضيين في ملف الشركة المالية الذي ينطوي على اتهامات بمخالفات قانونية، عن وجهتي النظر المتضاربتين بين عون والحريري حيال مصير التحقيق الجنائي الذي هو عند كل منهما، الذي يتشبّث به والذي يرفضه، أهم بكثير من تأليف حكومة جديدة.
ما حدث في قصر العدل وفي الشارع جزء أساسي أيضاً من تصفية حساب مؤجل وعالق بين رئيس الجمهورية ومجلس القضاء الأعلى، مذ وضع الأول في أدراجه مشروع تشكيلات قضائية أعدّه الثاني في 5 آذار 2020، اعترضت عليه وزيرة العدل ماري كلود نجم في كتاب وجهته إلى المجلس في 10 آذار وأعادته إليه، فأصر عليه في 16 آذار رغم تحفظاتها. وقعته وأرسلته إلى الرئيس فأضحى في «الجارور». لم يتزحزح مجلس القضاء عن تشبّثه بالتشكيلات كما وضعها، وليس لأي أحد أن يرغمه على أن يفعل، ولا تخلى رئيس الجمهورية عن حقه غير المقيد بمهلة ملزمة في عدم إصدار مرسوم عادي لا يتضمن موافقته عليه.
لكليهما صلاحيات غير مقيِّدة عاندا بالتمسك بها، على نحو مطابق تماماً لما يحدث في تأليف الحكومة بين عون والحريري: لا الأول قادر على إطاحة الثاني، ولا الثاني يمكنه تأليف حكومة بلا موافقة الأول. بذلك، على نحو الأبواب الموصدة التي تتعذر معها التسويات والحلول، تنتقل البلاد من مأزق إلى آخر.
ومع أن الشق السياسي في أزمة قصر العدل غير مكتوم. إلا أن الشق القضائي لم يكن أقل شأناً. ساهم في تسعير الخلاف، وتغليب الحسابات السياسية على طريقة مقاربة النصوص القانونية وتطبيقها في إدارة القضاء نفسه. مشكلة لم يفتعلها القاضيان المعنيان فحسب، بل انخرط فيها أيضاً مجلس القضاء الأعلى، المعلّق اليوم على ما يشاع عن ترويكا قضائية، صورة طبق الأصل عن الترويكا السياسية المجسَّدة في مثالثة تمنح أصحابها حق الفيتو. رؤوسها ثلاثة قضاة كبار هم المعنيون بالأزمة الحالية، مثلما كانوا معنيين بالتشكيلات، مثلما هم أبناء مرجعياتهم السياسية لا تفارقهم بصماتها: رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود والمدعي العام التمييزي غسان عويدات ورئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد.

المادة 13 التي تسلّح بها عويدات ذكّرت بإهانة البرلمان في 2001

في التشكيلات القضائية المعطلة حصلت المرجعيتان السياسيتان السنّية والشيعية على حصتيهما فيها، فيما لم يُعطَ رئيس الجمهورية – الشريك المفترض في الترويكا القضائية – حصته، فأُخرِج القضاة المحسوبون عليه من المناصب الموازية لرفاقهم، ما حمله على حجز المرسوم. في ما حدث أخيراً ليس بعيداً عن إرادة المواجهة التي رافقت التشكيلات القضائية، ولم تكن تلك مصوّبة سوى إلى رئيس الجمهورية. وخلافاً لسابقة معلومة في أيار 2013، عندما عارض مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي جان فهد قرارات للمدعي العام التمييزي القاضي حاتم فهد وحمله على التراجع عنها، وكانت طاولت قاضيين، ذهب المجلس الحالي في وجهة معاكسة توخّت الاصطدام بالمدعي العام الاستئنافي لجبل لبنان القاضية غادة عون بتبني قرار عويدات.
حينذاك انضم وزير العدل شكيب قرطباوي إلى مجلس القضاء، وطالب ماضي بالتراجع عن قراراته، مستنداً إلى سلطته التي تخضع قضاة النيابات العامة ورؤساءهم إليه هو، عملاً بالمادة 45 من المرسوم الاشتراعي رقم 150 الصادر في 16 أيلول 1985 (قانون القضاء العدلي). سلطة وزير العدل في المادة 45 منقولة حرفياً عن المادة 5 من القانون الفرنسي رقم 1270/58 الصادر في 22 كانون الأول 1958 في ظل الجمهورية الفرنسية والرئيس شارل ديغول. سرعان ما اكتسبت هذه المادة، وقوة سلطة الوزير فيها، أهميتها من تكريسها في قرار للمجلس الدستوري الفرنسي في 8 كانون الأول 2017، عندما اعتبر نص المادة الخامسة في القانون 1270/58 دستورياً.
ما فعله قرطباوي كان في وسع وزيرة العدل أن تفعله أيضاً.
أما المشكلة القانونية المرتبطة مباشرة بالأزمة الأخيرة، فتكمن في تطبيق الفقرة 2 من المادة 13 في قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أن «سلطة النائب العام لدى محكمة التمييز تشمل جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية في تسيير دعوى الحق العام، إنما يبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة». هي الفقرة التي استند إليها عويدات في كفّ يد عون وتوزيع ملفاتها على قضاة آخرين.
لهذه الفقرة بالذات سيرة سياسية بامتياز، غالباً ما أخفت حاجات أمنية في المراحل التي أثارت إشكالات كبيرة من حولها بغية تعديلها، كي تُحصر صلاحيات المدعي العام التمييزي في نطاقها التقليدي المألوف، ولإخراج النيابات العامة من هيمنته عليها. في معظم الأحيان، خصوصاً ما بعد اتفاق الطائف إبان الحقبة السورية، ارتبطت المادة 13 وفقرتها الثانية بهيمنة المرجعيات السياسية والأجهزة الأمنية على المدعي العام التمييزي، بغية وضع اليد على القضاء من فوق إلى فوق.
ذلك ما يدعو إلى استعادة ما دُعي في حينه «فضيحة» تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية.
عام 1999، عندما كان لا يزال وزيراً للعدل، ترأس القاضي جوزف شاوول لجنة لتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية، لا سيما منها فقرات المادة 13 وأبرزها الثانية. ضمت اللجنة رؤساء غرف التمييز والجنايات ومندوبين عن نقابتي بيروت وطرابلس، انتهت الى إلغاء الفقرة 2 وتجريد المدعي العام التمييزي من سلطته على قضاة النيابات العامة. ذهب مشروع القانون إلى البرلمان بعدما أقرته حكومة الرئيس سليم الحص، ونام في أدراجه. بمجيء حكومة الرئيس رفيق الحريري عام 2000، استرد الوزير الجديد للعدل سمير الجسر المشروع نفسه لبعض الوقت، ثم أعاده إلى المجلس بلا أي تعديل. ناقشه البرلمان وصادق عليه في 2 نيسان 2001. غضب رئيس الجمهورية إميل لحود واستخدم حقه في المادة 57 من الدستور برد القانون المقرّ، مضيفاً تعديلات مختلفة عليه، إلا أن الأساس فيها المادة 13 وتحديداً التمسك بإبقاء الصلاحيات الواسعة للمدعي العام التمييزي. أعادت الهيئة العامة للمجلس في جلسة 25 تموز الإصرار على القانون تبعاً للصيغة التي أقرتها، دونما الأخذ بأسباب الرد، وصوّتت بنصاب موصوف كانت توجبه إعادة قراءة قانون يرده رئيس الجمهورية. ولا تزال كلمة الرئيس نبيه برّي في الجلسة تلك يتردد صداها في معرض تأكيد رفض الرد: فخامة الرئيس يمون. لكن في قضايا التشريع ليسمح لنا.
تضاعف غضب لحود، فاشتكى الى السوريين ولوّح بالاستقالة، مصرّاً على توسيع صلاحيات المدعي العام التمييزي – وكان يشغل المنصب منذ منتصف التسعينات القاضي عدنان عضوم – ساعياً لإضعاف مواقع قضاة النيابات العامة وجعلها تحت رحمة المدعي العام التمييزي. لم ينقضِ أسبوعان حتى أرغمت الهيئة العامة على الالتئام مجدداً في 13 آب، كي تناقش اقتراح قانون وقعه عشرة نواب ينتمون إلى كتل رئيسية، في 8 آب، حمل صفة معجل مكرّر تناول تعديل كل ما طلبه لحود ورفضه قبل أيام مجلس النواب في قانون أصول المحاكمات الجزائية. ذلك ما حصل بالفعل بالغالبية النيابية نفسها. صدر قانون أصول المحاكمات الجزائية معدّلاً برقم 359 في 16 آب 2001، ثم نشرته الجريدة الرسمية بعد يومين.
ما حدث في البرلمان وُصف حينذاك بأكثر من فضيحة. قيل إنه إهانة غير مسبوقة له، بتراجعه عن إقراره قانوناً وكسر إرادة الغالبية النيابية تحت وطأة ضغوط مزدوجة من رئيس الجمهورية والسوريين.
ما يجري اليوم في القضاء أسوأ من قبل لسبب بسيط وجيه، هو أن مدمريه هذه المرة هم أهل البيت، أياً كانوا قضاة وسياسيين، من غير أن يكون اللواء غازي كنعان جالساً بينهم أو على رأس الطاولة.