خلدون الشريف – البوست
يطلق وزير الدفاع الأميركي الأسبق، جايمس ماتيس، تسمية “إسبرطة الصغيرة” على دولة الإمارات. وإسبرطة تلك، مدينة يونانية صغيرة، إشتهرت بإستعداد أبنائها للقتال، واستطاعت الدفاع عن نفسها وعن أثينا في مواجهة الفرس ثم بناء امبراطورية يُعتد بها. ليس أدل من إرتكاز الإمارات على الولايات المتحدة، على المستويات كافة، ما قاله سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة في 24 ايلول/ سبتمبر ٢٠٢٠ في لقاء افتراضي:”نعتقد ان حضور اميركا في منطقتنا يوفر الإستقرار والأمن ويعزز فرص العمل ويولّد الأفكار”، وأضاف: نحن لسنا موالين لأميركا فحسب، “بل ننتمي للمحور الذي تقوده”. هذا الإرتباط ليس وليد اليوم بل منذ تأسست تلك الدولة عام ١٩٧١ وتطور مع الوقت حتى باتت هذه الإمارة الصغيرة في صلب السياسات الداخلية الأميركية مع بلوغ استثماراتها أرقامًا قياسية في الولايات المتحدة.
ليس سهلًا الوصول الى رقم يمثل اجمالي استثمارات الإمارات في الولايات المتحدة، لكن ارقام اكبر صندوقين سياديين لأبو ظبي تعطي مؤشرًا عن تلك الإستثمارات. أولًا، جهاز ابو ظبي للإستثمار ADIA الذي تأسس في عام 1976 كمؤسسة استثمارية عالمية ذات أصول متنوعة تعمل على استثمار الموارد المالية نيابة عن حكومة أبوظبي، يشير تقريره السنوي لعام ٢٠١٨ – وهو أحدث إصدار تم نشره – إلى أن ٣٥-٥٠٪ من محفظة صندوق الثروة السيادية البالغة بين ٥٨٠ و٨٢٠ مليار دولار مخصصة للاستثمار بشكل دائم في اميركا الشمالية. ثانيًا، صندوق “مبادلة”، الذي تأسس عام ٢٠٠٢ كشركة مساهمة عامة، مملوكة بالكامل من قبل حكومة ابو ظبي والمقدرة قيمته بـ٢٥٠ مليار دولار، فيقول تقريره السنوي لعام ٢٠١٩ ان ٣٨٪ من محفظته تستثمر في الولايات المتحدة ايضًا.
زدْ على ذلك أن الإمارات طوّرت قطاعًا مصرفيًا محليًا يعتد به لكنها ايضًا تستثمر في القطاع المصرفي الأميركي وتستفيد من الخدمات المصرفية لكبريات البنوك الأميركية ايضًا، وتعيد ضخ الجزء الأكبر من ارباحها في استثمارات بورصة وول ستريت والأسهم الأميركية. وبجمع بسيط، يتضح ان استثمارات ابو ظبي الأميركية لا تقل عن ٢٥٠ مليار دولار في اكثر الحسابات تحفظًا ويمكن أن تتجاوز النصف تريليون في الحسابات الواقعية. سعت ابو ظبي لنقل القيادة المركزية الأميركية من قطر الى اراضيها وسعت ايضًا الى نقل القوة النووية الموجودة في قاعدة انجرليك التركية الى الإمارات ايضًا لكنها لم تنجح في الأمرين استطاعت أبو ظبي، بعد الأزمة المالية الكونية عام ٢٠٠٨، ان تنقذ الإمارات السبع المكونة لدولة الإمارات، وبشكل ادق، امارة دبي من الإفلاس الحتمي، ما دفعها الى واجهة الإمساك بقرار الدولة الصغيرة في كل ما يختص بالدفاع والسياسة الخارجية، وهي الغنية الممسكة باكبر الصناديق السيادية لتلك الدولة. لم تدخر أبو ظبي الجهد لتطوير علاقاتها بالولايات المتحدة لتصبح احد اقرب الشركاء في المنطقة واهم الحلفاء الذين يعتمد عليهم.
وتعتبر الإمارات ثالث اكبر مستورد للأسلحة الأميركية اذ بلغ مجموع ما استوردته بين ٢٠١١ و٢٠١٨ بحدود الـ ٦،٩ مليار حسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI. سبقتها كوريا الجنوبية بـ٨،٢٥ مليار وجاءت السعودية اولى بـ ١٦،٧ مليار. وتضاعفت تلك الأرقام في عامي ٢٠١٩ و٢٠٢٠ على التوالي، اذ لامست ارقام مشتريات ٢٠١٩ نحو خمس مليارات و٥ اضعاف هذا الرقم لعام ٢٠٢٠ اذ تتضمن المشتريات طائرات اف ٣٥ بقيمة ١٠،٤ مليار وحدها (50 طائرة) وطائرات مسيرة من طراز MQ-9B بقيمة ٣ مليار ومنظومات صواريخ ارض-جو، وصواريخ جو-جو بقيمة ١٠ مليارات دولار. ازداد طموح الإمارات في ظل سيطرة ابو ظبي وبشكل خاص ولي عهدها محمد بن زايد، حتى باتت لاعبًا إقليميًا يتدخل في شؤون اليمن، سوريا، السودان، ليبيا، تشاد، ويساهم في الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي ودعم خلفه عبدالفتاح السيسي، ويدفع مجلس التعاون الخليجي لمقاطعة قطر ويدعم ولي عهد الدولة الأكبر والأكثر تأثيرًا في الخليج العربي، أي السعودية. كما أن الإمارات حافظت على علاقاتها الديبلوماسية والأمنية والمالية والتجارية مع ايران، وفي الوقت نفسه، استعانت بإسرائيل لمواجهتها. وقعت اتفاق ابراهام (مع جارتها البحرين) للتطبيع مع اسرائيل، وأسّست صندوقًا يحمل الإسم نفسه بالتعاون مع كل من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي مقره مدينة القدس، برأسمال قدره 3 مليارات دولار، يستهدف تنفيذ استثمارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثل المغرب. وأعلنت عن إنشاء صندوق استثماري بقيمة ١٠ مليارات دولار في إسرائيل يهدف للاستثمار في قطاعات وصفتها بالإستراتيجية، بينها الطاقة والتصنيع والمياه والفضاء والرعاية الصحية والتكنولوجيا الزراعية. سعت ابو ظبي لنقل القيادة المركزية الأميركية من قطر الى اراضيها وسعت ايضًا الى نقل القوة النووية الموجودة في قاعدة انجرليك التركية الى الإمارات ايضًا لكنها لم تنجح في الأمرين. بنت الدولة الصغيرة قواعد عسكرية في القرن الإفريقي ثم ما لبثت ان فككت قاعدة عصب في اريتريا وثبتت وجودها في شمال اليمن وعززت حضورها العسكري في باب المندب.
ثمة نظرة لأبو ظبي بان خدماتها للإمبراطورية الأميركية تجعل الأخيرة تُعفيها من اية أعمال تأديبية انتقامية من جهة وتتيح لها الإحتماء من رياح التحولات السياسية في واشنطن من جهة ثانية منذ عقد الإتفاق النووي عام ٢٠١٥، نظر الحزب الديموقراطي الأميركي الى الإمارات بوصفها من الدول التي وظفت امكاناتها مع منظمات اميركية واسرائيلية داخل الولايات المتحدة وخارجها لإعاقة تنفيذ الإتفاق، عبر الإضاءة الدائمة على عدم الإمتثال الإيراني لمندرجات الإتفاق حتى انسحاب اميركا ترامب منه عام ٢٠١٨. إقرأ على موقع 180 مصر وتركيا.. ثنائية سيناء – ليبيا مجدداً! مما لا شك فيه، أن الإمارات استثمرت الكثير مع ادارة دونالد ترامب، ما دفع ادارة جو بايدن الى تعليق صفقة طائرات اف ٣٥ في محاولة لتوجيه رسالة الى الدولة الصغيرة، لكن ما لبثت تلك الإدارة ان رفعت الحظر لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي ماليًا وسياسيًا واقتصاديًا بلا شك. وإذا نجح اللوبي الضاغط تحت عنوان “حقوق الإنسان” في تجميد الصفقة مجددًا، فإن السؤال المطروح هل تتقدم عند بايدن المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان على أرباح شركات تصنيع الأسلحة، وعندها كيف سيتصرف اللوبي الداعم للإمارات، وبالمقابل، كيف سيرد الآخرون؟ على الأرجح، سيكون الرابح دائمًا هو لوبي شركات السلاح، فوزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر كان أحد أفراد جمعات الضغط في شركة “ليثيون” ووزير الدفاع الحالي لويد أوستن هو عضو سابق في مجلس إدارة شركة “ليثيون” التي تعتبر المورد الأول للصواريخ، فيما تتشارك معها في مهمة بيع السلاح شركات “لوكيد مارتن” و”جنرال أتوميكس” و”نورثروب جرومان”.
ويحتفظ الحزبان الجمهوري والديموقراطي بعلاقات متوازنة مع الإمارات اذ تساعد الإمارات بحسب المؤسسة الحاكمة في اميركا في ضمان إمدادات الطاقة العالمية، وحماية الشبكات البحرية التي يتدفق من خلالها هذا الإمداد، وتحويل إيجارات النفط إلى وول ستريت، وتقديم مواقع ميدانية للجيش الأميركي، وكذلك مؤازرة اميركا حيث تدعو الحاجة في توسعها وسيطرتها الخارجية. لذا ثمة نظرة لأبو ظبي بان خدماتها للإمبراطورية الأميركية تجعل الأخيرة تُعفيها من اية أعمال تأديبية انتقامية من جهة وتتيح لها الإحتماء من رياح التحولات السياسية في واشنطن من جهة ثانية.
فالولايات المتحدة الأميركية ـ بحزبيها ومؤسساتها ـ تبدي تقديرها “للانفتاح التاريخي لدولة الإمارات على إسرائيل” و”الفرص المستقبلية لدولة الإمارات لتقديم مساهمات إضافية لشرق أوسط أكثر سلامًا”، وهي تُجدّد دومًا إلتزامها بالدفاع عن حليفتها الإمارات ضد التهديدات الإقليمية. الإرتكاز الى السعودية، يؤمن بلا شك مظلة خليجية للإمارات. ومصر قادرة على تعويض الضعف الديموغرافي. اما الإصطفاف مع اسرائيل في ضفة وضد ايران وتركيا في الضفة المقابلة، فيجعل الإمارات تقيم فوق فالق زلزالي حساس سارعت الإمارات إلى التشبيك مع الإدارة الجديدة. أولًا عبر سفيرها في واشنطن الذي يدير لوبيات سياسية وإعلامية بينها عشرات المراكز البحثية think tank الممولة من الإمارات، فضلًا عن إغراء عشرات الصحافيين والصحف والمجلات والمواقع والشاشات في الولايات المتحدة. أيضا من خلال الفريق الأميركي الجديد. وزير الدفاع لويد اوستن الذي عمل لفترة قائدًا للمنطقة الوسطى CENTCOM يمثل عنصر طمأنة حيث تسنى له أثناء عمله اقامة علاقات مريحة مع آل نهيان. ومن المعروف أن بريت ماكغورك منسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال افريقيا، علاقته سيئة مع تركيا مقابل علاقة جيدة مع السعودية والإمارات، اما مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف، فقد مثّلت بلادها كسفيرة في الإمارات وهي من القلائل الذين دافعوا علنًا عن صفقة طائرات اف ٣٥ والطائرات المسيرة لأبو ظبي. وبقدر ما يزداد تأثير ونفوذ الإمارات في الولايات المتحدة، تتعرض للنقد وللتصويب المستمر حيث يؤخذ عليها تمويل حملتي هيلاري كلينتون ودونالد ترامب “بطريقة غير شرعية”. كما جرى إتهام ابو ظبي بأنها تتحمل مسؤولية انهيار المنظومة الأميركية وانحطاطها، كما قال كولين باور رئيس تحرير نوريا NORIA والحائز على دكتوراه من جامعة جون هوبكنز. لا تكتفي الإمارات بالإتكال على الولايات المتحدة. تقيم الإمارة الصغيرة مروحة علاقات سياسية وتجارية تمتد من الصين الى اوروبا والهند وافريقيا. لكن ادوار الدول الصغيرة، تظل محكومة بحجمها واعداد سكانها وعديد جيشها واستثماراتها. وفي لحظة قد تتعرض تلك الدول لإستفزازت ومحاولات انتقامية من دول ذي نفوذ واحجام وديموغرافيا اكبر، ما يعرضها للخطر.
كيف ننسى ما حصل مع غزو الكويت عام 1990 في لحظة حسابات خاطئة وتقديرات عراقية مبالغ بها. الإرتكاز الى السعودية، يؤمن بلا شك مظلة خليجية للإمارات. ومصر قادرة على تعويض الضعف الديموغرافي. اما الإصطفاف مع اسرائيل في ضفة وضد ايران وتركيا في الضفة المقابلة، فيجعل الإمارات تقيم فوق فالق زلزالي حساس. التحالفات الدولية مهمة جدًا لكن يبقى الإقليم الأكثر أثرًا والأقرب صداقة وعدوانًا. وبرغم سقوط إسبرطة بيد الرومان، بقيت قصص تلك المدينة الصغيرة تُروى عبر التاريخ ولا تزال مثيرة للإعجاب وتلامس الأسطورة الجميلة!