شعار ناشطون

نهاية تاريخ الفن”: يتبدد الحاضر…ويظل التاريخ مرئياً

09/08/24 08:56 am

<span dir="ltr">09/08/24 08:56 am</span>

 

على الرغم من الغموض الذي يلفّ كتاب هانس بلتينغ (Hans Belting) “نهاية تاريخ الفن” (دار سيناترا-المركز الوطني للترجمة. تونس. ترجمة ناجي العونلي وإدريس الشوك)، فإن الكتاب في مجمله يشكّل تحدياً حيال موضعة العلاقة التاريخية بين الفن والعالم. لا يبتّ الباحث الألماني في أي من وجوه تلك العلاقة، بل تراه في الكثير من المقاربات يؤسس لإشكاليات جديدة في هذا الصدد.

 

في مقاربته للمواضيع يتكىء بلتينغ في كتابه هذا على جملة من الفلاسفة، تارة بشكل واضح وصريح مثل هيغل وفالتر بنيامين، وتارة أخرى بشكل موارب أو ضبابي كحال اتكائه على جاك دريدا في موضوعة “الأرشيف” أو ميرلو بونتي في موضوعة “المابين”. إن المهمة الأولى للفيلسوف، حسب ميرلو بونتي، هي الإستنطاق، أي مساءلة المابين. وفي ما يتعلق بكتاب بلتينغ موضوع هذه القراءة، فإن إمكان رصده للنهايات يقوم على تعقّب العلاقة التي تأسست تاريخياً ما بين الفن والعالم، بين الماضي والحاضر وبين العمل الفني وتلقّيه.

 

من المعروف تاريخياً أن لا إجماع على نظرية واحدة في الفن، لكن هذا لا يمنع أن ثمة حقيقة شاسعة الإرجاء قاربت الفن باعتباره محاولة لإخفاء حقيقة العالم، تقابلها حقيقة أخرى رأت إلى العمل الفني كانفلاش هائل لهذه الحقيقة. بناءً عليه، يرفض بلتينغ تلك النظريات التي تقول بإمكان تأسيس تاريخ للفن انطلاقاً من سردية واحدة لهذا التاريخ، لكنه يصرّ من جهة أخرى على أن الفن في عمقه هو في كل مرحلة من مراحله، تأسيس لنهاية ما، نهاية مستمرة على الدوم. فبحسب هذا المؤرخ للفن، من الإشكاليات التي تؤسس لغموض العلاقة بين الفن والعالم أن الفن استطاع تاريخياً وبمعزل عن أحداث التاريخ، التشريع لنفسه، وذلك بصرف النظر عن تضارب التعريفات التي حاولت تحديد الفن وسجنه في إطار نظري معيّن في هذه الفترة التاريخية أو تلك. فالفن في المآل الأخير هو المشرّع الخاص لتاريخه، وهو ما يستبطن حكماً عدم القدرة على إلقاء القبض على حدود نهاياته أو على لحظات بداياته. فمعاينة تاريخ الفن في هذا السياق تقع في باب التأويل أو المزاج وربما في باب الأيديولوجيا. فبالنسبة إلى منتِج العمل الفني إن هذا العمل هو بالدرجة الأولى أداة تنعّم بحرية مطلقة، واللوحة أو المنحوتة في هذا السياق هي رمز لضرب من الحرية.

 

بيد أن الأمر يختلف كلياً لدى مقاربة هذا العمل، ليس بعين الفنان إنما بعين متلقّيه حيث تداخُل التواريخ والسرديات والثقافات يعكّر بشدة صفو القول بحتمية النهايات. فنهاية العمل في هذا المحل – أو لا نهايته – هي واقعة شخصية جداً تخضع لظروف الناظر إليه وتتجاوز كل التعريفات الممكنة للنهايات وللتاريخ… “فيما يتوغّل الفن في العالم، فإنه يستقرّ في تناقضات لا رادّ لها”، وجوهر تلك التناقضات يقوم على العلاقة الغامضة بين العمل الفني وتلقّيه حيث نهاية التاريخ، نهاية تاريخ الفن، في هذا السياق تصير محل مساءلة واستفسار على الدوم.

 

فضلاً عن مسألة التلقي، من الإلتباسات التي تثيرها مسألة نهاية تاريخ الفن حسب بلتينغ، ذلك الإنتقال بالفن من كونه واقعة ابستيمولوجية تؤسس لنمط ثقافي ما في هذه الحقبة من حقبات التاريخ أو تلك، إلى كونه واقعة تنتجها الثقافة السائدة، وللأيديولوجيات السياسية والتوتاليتارية منها بشكل خاص الدور الأعظم في هذا السياق، حيث تداخُل النهايات العقائدية، وتشابكها في هذا المحل يبعثر إمكان التسلسل السردي لتاريخ الفن، بل ويبعثر أيضاً طرق تلقّيه لنكون بالتالي إزاء مسألة أخرى غالباً ما يُعبّر عنها بالسؤال التالي: هل العمل الفني هو حدث دائم أم حدث مؤقت؟ وهو ما صير إلى مناقشته بعمق تحت عنوان “جماليات الزائل” من قِبل جملة من مؤرخي الفن وعلى رأسهم هارولد روزنبرغ.

 

ثمة نظام من التبادلات بين العمل الفني وأطر إنتاجه من جهة، والعالم من جهة أخرى، وهو نظام يكتنفه الكثير من الغرابة والتناقضات، حسب بلتينغ. فالعمل الفني في بعض تحيّزاته يستفزّ نمطاً خاصاً من الحواس إزاء علاقة الإنسان بالعالم بالإجمال. بالتالي، وانطلاقاً من هذه الرؤية للأمور، أين تكمن النهايات وأين تكمن البدايات؟!! في هذه المسألة، وفي مسائل أخرى يتناولها في كتابه، يترك بلتينغ الإجابة معلقة وكأني به صدى لِما كان يردده بيكيت: “مَنْ منا يستطيع أن يقدّم شيئاً مفهوماً بصورة مطلقة؟!”.

 

لا ينكر بلتينغ بالمرة أن العمل الفني قد يكون بمثابة النص المحمّل بِرِهانات عديدة، بيد أن هذه الرهانات قد تتحوّل إلى عائق في سياق تحديد البدايات والنهايات، إذ أن العمل الفني بهذا الصدد قد يتحوّل إلى محض رمز تاريخي، وكما هو معلوم تاريخياً، إن الرمزي تعنّتي الطابع. وعند هذه النقطة بالذات يشير بلتينغ إلى ذلك المنزلق الخطير، والذي يكون الفن بموجبه محل دراسة انثروبولوجية بدلاً من أن يكون “ناموساً للذاكرة الثقافية لهذه المجموعة البشرية أو تلك”… وشتان ما بين المقاربتين.

 

لعلّ الرسالة الأهم التي يقدّمها هانس بلتينغ في “نهاية تاريخ الفن”، هي تلك المتعلقة بانقلاب المواقع بين الماضي والحاضر إزاء مقاربة الأعمال الفنية، وذلك في الفصول الأخيرة من الكتاب حيث ناقش تطور التقنيات الميديائية وانعكاس هذا التطور على انتاج العمل الفني وطرق تلقّيه. إن المؤقت هو الحدث الدائم في هذا السياق الميديائي الشاسع، وانتفاء دور الفن كعامل مهم من عوامل تحديد الهوية الإنسانية يبلغ أوجه في هذا السياق. والمفارقة هنا أن الأعمال الفنية في الزمن الميديائي الأخير هي مجرد ذكريات سريعة العبور والزوال، بينما تلك المؤسسة تاريخياً منذ عقود وقرون هي دائمة الحضور. يقول بلتينغ في تعليقه على هذا الأمر: “… تشكّل أمر غريب يتمثّل في أن التاريخ ظل مرئياً… في حين يتبدّد الحاضر… بفعل الصورة السريعة لوسائل الإتصال”.

 

إن الذاكرة الفنية في هذا المآل الأخير هي محل تململ واضطراب، فما تمّ انتاجه قديماً تراه دائم الحضور والمعاينة، بينما ما يُنتج حديثاً يقع في باب الذكريات.

 

يناقش بلتينغ هذه المسألة في سياق إمكان القول بنهاية تاريخ الفن أو عدم هذا الإمكان، إنما هذا التململ والإضطراب ربما يعكس حقيقة أخرى يعيشها ناس الوسائط الميديائية إلى حدّ عميق: الملل. فالتمعّن في هذه المسألة يشير إلى أن الملل هو الحقيقة الأكثر حضوراً في عالم التواصل الاجتماعي وفي العالم كله. وربما يكون ميلان كونديرا قد تمثّل هذه الحقيقة عندما أورد في رواية “حفلة التفاهة” تلك العبارة التي توجّه بها أحد شخصيات الرواية إلى رفيقه أثناء مراقبتهما طابوراً من البشر أمام معرض لمارك شاغال: “… إن الطوابير تزداد طولاً من أسبوع إلى آخر… انظر إليهم! هل تعتقد أنهم أصبحوا يحبون شاغال فجأة؟ إنهم مستعدون للذهاب إلى أي مكان لفعل أي شيء فقط ليقتلوا الوقت الذي لا يعرفون ما يفعلون به”.

تابعنا عبر