يوجد قاسم مُشترك بين مُختلف الأفراد والمجموعات التي تخوض معركة قانونية بوجه حاكم البنك المركزي رياض سلامة، في الخارج، بأنّه «لا ثقة» بالقضاء اللبناني، ولا يُمكن التعويل عليه أو على السلطة السياسية في أي إجراء «عِقابي» ضد سلامة. نقلوا معركتهم إلى الملاعب الفرنسية والسويسرية والبريطانية، مُقرّرين أن يُضيّقوا الخناق قَدر المُستطاع على الرجل. ورقة القوّة التي يملكونها هي إدارة سلامة للسياسة النقدية التي أوصلت إلى سرقة أموال المودعين وتسخير المال العام لمراكمة ثروات شخصية وأسوأ أزمة في تاريخ لبنان. كما أنّهم مدعومون بقرار أوروبي ــــ فرنسي تحديداً ــــ بالإجهاز نهائياً عليه. رَجُل الولايات المتحدة الأميركية، والمصالح الغربية وتنفيذ الأوامر المالية، وُضع تحت المِجهر أخيراً. ما يلبث يستقبل دعوى قضائية، حتى تُعاجله شكوى من مكانٍ آخر، أو تقرير صحافي، أو موقف سياسي… وهو أمام كلّ هذه الأحداث يتصرّف كأنّه موجود في كوكبٍ آخر، مُصرّاً على التمسّك بمنصبه وعدم الاستقالة، حتّى لو أوصل بقاؤه في الموقع إلى تدمير ما تبقّى من نظام مالي ومصرفي محلّي.

أمس كان «يوم سلامة» في صُحف فرنسية وسويسرية ولبنانية، كتبت جميعها أنّها «تَنفرد» بنشر نصّ مراسلة النيابة العامة السويسرية إلى القضاء اللبناني، ضدّ سلامة. الكتابة عن ملفات سلامة في الصحف تعدّ انعكاساً للموقف السياسي. والمراسلة السويسرية مؤلفة من 16 صفحة ــــ كانت «الأخبار» قد نشرت تفاصيلها في 3 آذار، تضمّ مُعطيات تُعزّز شُبهة اختلاس وتبييض الأموال التي قام بها سلامة بالتعاون مع شقيقه رجا، ومُساعدته ماريان الحويك، تصل قيمتها إلى 300 مليون دولار. وقد «خُرقت» معلومات سلامة في سويسرا من العقد الموقّع بين مصرف لبنان بشخص الحاكم وشركة «Forry Associates LTD» بشخص رجا سلامة (مُسجلة في الجزر العذراء البريطانية). عقود «مشبوهة» موقّعة بين رجا سلامة ومصرف لبنان، وحسابات مصرفية عديدة في سويسرا، وشركات عدّة أسّسها سلامة، من بينها شركة «SI 2 SA» التي يضم مجلس إدارتها ابن شقيقة الحاكم. وقد أضافت صحيفة «Le Temps» السويسرية أنّ «مصرف جنيف تواصل مع السلطات السويسرية في آب 2020، بعد مقال عن سلامة نُشر في صحيفة «لوريان لو جور» اللبنانية. وفي 27 تشرين الأول، طلبت السلطات الجنائية بشكل مباشر تجميد الحسابات المصرفية. وقد طُبّق الإجراء نفسه على الحسابات المفتوحة في مصرفَي «كريديه سويس» و«UBS»». ويوجد اقتناع بأنّ سلامة «هو المُستفيد من حساب شركة «Red Street 10» في مصرف «UBS»». وتنقل صحيفة «Le Temps» عن المُدعي العام السويسري أنّ مدفوعات سلامة إلى «Red Street 10» استُخدمت لشراء عقارات. وبعد امتلاك أسهم في مبنى يقع ضمن البلدة القديمة في جنيف، تملّكت «Red Street 10» مبنى بقيمة تُقدّر بـ 10 ملايين فرنك». وقد ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أمس أنّها تواصلت مع المدّعي العام السويسري، فأكّد لها استمرار التحقيقات القضائية ضدّ سلامة، رافضاً الكشف عن تفاصيل إضافية.

عبّر المسؤولون الفرنسيون عن عدم اقتناعهم بإمكانية «الإصلاحٍ» بوجود سلامة

الحديث عن فساد سلامة في الإعلام الغربي واللبناني، يواكبه إصرار الرئيس ميشال عون على إجراء التدقيق الجنائي، واتهام مُعرقليه بـ«الفاسدين». آخر هؤلاء كان البطريرك مار بشارة الراعي الذي زايد على كلّ المُنتفعين وأصحاب المصالح في حمايتهم لحاكم البنك المركزي، بـ«منعه» إجراء التدقيق قبل تشكيل الحكومة.
«صدفة» نشر المراسلة في كلّ هذه المنابر في التوقيت نفسه، لا يُمكن التعامل معها بسذاجة، بل هي رسالة إلى «الحاكم» والمسؤولين اللبنانيين بتسعير الضغوط القضائية على سلامة، في محاولةٍ لعزله من منصبه. الرجل أمّن الأجواء التي أدّت إلى «سرقة العصر»، وفق توصيف صحيفة «لو موند» الفرنسية له قبل أيّام. وواحد من شروط فرنسا في لبنان إجراء التدقيق الجنائي، ومُحاسبة حاكم البنك المركزي. وسبق للمسؤولين الفرنسيين أن أبلغوا المعنيين في لبنان، عدم اقتناعهم بوجود إمكانية لـ«إصلاحٍ» بوجود سلامة في مركزه. وسيُستكمل الضغط في الأيام المُقبلة، مع كشف صحيفة «لو فيغارو» أول من أمس عن شكوى يستعدّ المحامي أنطوان ميزونوف لتقديمها في باريس ضدّ سلامة، بتهمة تبييض الأموال. هي نفسها الصحيفة، التي نشرت أمس مقابلة «تبجيلية» بسلامة، وأفردت له مساحةً ليُعيد تكرار سرديته وتبرئة ذمّته، مُعتبراً أنّ «البنك المركزي هو العمود الأخير القوي في البلد».
فرنسا لا تهتم بمصلحة لبنان والمودعين، بقَدر ما تُريد بَسط سيطرتها النقدية على لبنان، وتعيين حاكم جديد، والتسويق لوضع مؤسسة المصرف المركزي تحت «رعايتها». سلامة حمى طوال السنوات الماضية مصالح كلّ الغرب في لبنان، لكنّه بشكلٍ خاص «وديعة» الولايات المتحدة الأميركية و«ثقتها». يعني ذلك أنّ قرار «التخلص منه سياسياً» لا يُتّخذ من باريس أو بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) حصراً، بل من واشنطن أولاً. وهذه الأخيرة، لم تُصدر حُكمها النهائي، رغم أنّ سلامة نفسه عبّر ــــ حين رُفعت الدعوى السويسرية ضدّه ــــ عن خشيته من فقدان الغطاء الأميركي، واستبعاده أن تُقدم سويسرا على هذه الخطوة من دون موافقة أميركية. لكن، سريعاً أتاه الدعم الأميركي مجدداً بنفي ما ورد في وكالة «بلومبرغ» عن قرار واشنطن فرض عقوبات عليه، علماً بأن سلامة سيستقبل وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل خلال زيارته للبنان.