شعار ناشطون

السينما العربية البديلة بين الأمس واليوم…المقال الأخير لوليد شميط

04/03/24 04:35 pm

<span dir="ltr">04/03/24 04:35 pm</span>

ما هو المقصود بالسينما البديلة؟ إذا كانت تجوز لنا إعادة طرح هذا السؤال اليوم، وبعد مرور نحو نصف قرن على طرح ومناقشة السينما العربية البديلة في مهرجان دمشق لسينما الشباب العرب (1972)، بمبادرة من رئيس المهرجان ومدير عام مؤسسة السينما السورية آنذاك حميد مرعي، فلأنّ هذه السينما تحولت إلى حركة سينمائية فعلية ترتكز على أرضية فكرية وثقافية وسياسية وجمالية مميزة في مشروع اكتسب خبرة أكيدة.

 

وتقف وراء السينما البديلة طموحات كبيرة وهي التي أرادت أن تبحث عن بديل للسينما التقليدية. وهي تزداد مع الوقت حيوية ونشاطاً وانتشاراً في مختلف البلدان العربية ومنها بلدان جديدة على السينما في الخليج العربي، ومنذ سنوات، تزداد نشاطاً وانتشاراً مع جيل جديد من السينمائيين. وهذا ما عبّر عنه المخرج الراحل الصديق برهان علوية عندما قال مرة كلامًا يختصر إلى حدّ كبير واقع الحال: “أنا أنجزت أفلاماً اخترتها وليست هي التي اختارتني. أنجزت أفلامًا أحببتها ولديّ قناعة بأهميتها كموضوع وفن وخيال. أنا مخرج هذه الأفلام ولست مخرجًا بالمطلق. جيلنا قدّم سينما بديلة وأدخلها إلى الحياة الثقافية اليومية. اليوم باتت السينما العربية كلها بديلة تقريبًا”.

 

وهذا ما يؤكّده أيضًا الحضور المميز للسينما البديلة في المهرجانات السينمائية العربية والعالمية. في تعليقها على مهرجان القاهرة السينمائي (2021)، قالت صحيفة “القاهرة”: “اتّسمت دورة المهرجان بحضور كبير للسينما العربية حتى تخاله مهرجانًا دوليًا للفيلم العربي، أو كأنه تحوّل إلى ساحة لانتفاضة سينمائية عربية أعربت عن نفسها في ميدان الأوبرا”.

 

لا يمكننا في الحديث عن هذه “الانتفاضة” تجاهل الدور الكبير الذي لعبته وتلعبه المهرجانات السينمائية، ومعها النقد السينمائي، ونوادي السينما، والمدارس والجامعات التي تدرّس السينما، ودور العرض عمومًا، وخصوصًا منها دور سينما الفن والتجربة التي اكتسبت السينما البديلة بفضلها ثقافة ومعرفة وازدادت طموحًا وخبرة. وجاءت تجربة السنوات الماضية بأجوبة كثيرة. فالأفلام العربية التي ظهرت خلال هذه السنوات، على اختلاف قيمتها الفكرية والجمالية، يمكن أن تعطي فكرة وافية عن سينما تريد أن تعبّر عن هموم الناس والمجتمع، وتشغلها حركة التاريخ والواقع، وقضايا التحرّر الوطني والقومي، وتتناول مواضيع بالغة الجرأة في كثير من الأحيان. وهي تبحث عن جمالية سينمائية مميزة تتفاعل مع التراث المتقدم ومع التجارب الجديدة في السينما العالمية، وتنهل من الثقافة الوطنية والعربية ما يكسبها أصالتها وهي التي تنتمي إلى ثقافة غنية بتراثها وآدابها وفنونها.

 

إنها سينما تبحث عن هويتها، عن مفرداتها، عن شخصيتها، عن مميزاتها. وإذا كانت عملية البحث هذه متعددة الوسائل والمنطلقات والمفاهيم، ففي ذلك دليل عافية لسينما شديدة التنوّع في وحدتها. وبحث السينما البديلة عن هويتها لا يعني على الإطلاق انفصالها عن التراث السينمائي العالمي وعن الحركات والمدارس السينمائية المتقدّمة اليوم، وإنما يعني أنّ السينما البديلة تريد أن تعبّر عن واقع معيّن انطلاقًا من مخزون هذا الواقع الفني والثقافي والأدبي والفكري الذي يضفي عليها شرعيتها ويكسبها هويتها. فالسينما ليست إنتاجًا منفصلًا عن الواقع الذي تنشأ وتنمو فيه. إنها نشاط فني وإقتصادي وثقافي واجتماعي. ولقد أدّت وتؤدي الأحداث والمتغيرات الكبرى التي عرفتها وتعرفها الأقطار العربية إلى تعمّق الوعي بأهمية السينما فصارت عند عدد كبير من الشباب وسيلة التعبير المفضلة في حركة سينمائية تتفاعل في إطارها اتجاهات متنوعة تتفق في النظرة إلى السينما كنشاط فني وثقافي وسياسي، ويمكن أن تختلف في النهج والاتجاه. فالسينما البديلة عند البعض هي سينما المؤلف، وهي أيضًا عند آخرين: السينما التجريبية، السينما السياسية، السينما النضالية، السينما الثورية، سينما تحت الأرض، السينما المستقلة التي تسعى إلى أن تكون بديلة في الشكل والمضمون وفي الإنتاج والتوزيع والاستثمار… مع كل هذه الاتجاهات وغيرها، وعلى تباين مستواها الفني وطروحاتها السياسية والإيديولوجية، ترتسم ملامح سينما جديدة، بديلة، تريد أن تقف إلى جانب قوى التحرّر الوطني والاجتماعي، وأن تلعب دورًا في المعركة ضدّ الصهيونية، وأن تقف إلى جانب حركات التحرّر الوطني، وقضايا العمّال والفلاحين والنساء والشباب…

 

وإلى جانب الأفلام الروائية، وجد عدد غير قليل من السينمائيين العرب في الفيلم التسجيلي خير وسيلة للتعامل مع تناقضات الواقع ومشاكله وقضاياه. وقد أكّد الفيلم التسجيلي على حضوره المميز ودوره الفاعل في تعامله مع مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية في كافة البلدان العربية. غير أنّ الدور الفاعل والمميز للسينما البديلة يصطدم بمشاكل لا يستهان بها، وليست الرقابة على الأفلام هي أهم هذه المشاكل على الرغم من أنّ ممنوعاتها تشمل كل ما له علاقة بنقد النظام السياسي، وكشف الواقع على حقيقته، والتحدّث عن الجنس وغيره من المواضيع التي تعتبرها الجهات المسؤولة “حساسة وخطيرة”، مما يحمل السينمائي على اللجوء إلى الرقابة الذاتية وأحيانًا كثيرة إلى الكناية والرمز والتلميح، هربًا من مقصّ الرقيب. وهناك أيضًا الرقابة الاقتصادية التي تحول أحيانًا دون إنتاج وتوزيع الأفلام بسبب مضامينها، الأمر الذي يزيد من حدّة المشكلة. وتوزيع الأفلام مشكلة قائمة بذاتها. في البدء اعتقد سينمائيون أنّ المشكلة تكمن في الإنتاج ولكنهم سريعًا ما أدركوا أنّ مشكلة التوزيع لا تقلّ أهمية. ومشكلة العلاقة بالجمهور مطروحة من زاوية أخرى وهي زاوية كيفية مخاطبة هذا الجمهور بأشكال سينمائية جديدة يتقبّلها من دون أن يحدّ هذا الأمر من التعمّق في التجربة وفي البحث عن جمالية سينمائية لا تكون منفصلة عن السينما العالمية المتقدّمة من دون أن تكون نقلًا عنها، ولا أن تكون منفصلة عن التراث الفني والثقافي والسينمائي العربي من دون أن تكون سجينته.

 

وإلى جانب هذه المشاكل كلها يواجه السينمائيون العرب الشباب مشكلة التواجد في بلدان متعدّدة وعدم احتكاكهم الفعلي ببعضهم، وإن كانت المهرجانات السينمائية العربية ومعها النقد السينمائي ونوادي السينما التي تلعب دورًا مهمًا، وخصوصًا منها الدور المميز الذي يلعبه “نادي لكلّ الناس” بإدارة نجا الأشقر، في الحدّ من هذه المشكلة بحيث بات يمكن القول إنّ السينما العربية البديلة لم تعد تفتقر إلى ذلك المناخ الجماعي الذي ساعد السينمائيين في فرنسا على إيجاد “الموجة الجديدة”، وفي بريطانيا “السينما الحرة”، وفي البرازيل “السينما نوفو” وفي الولايات المتحدة “سينما تحت الأرض”، حتى لا نذكر سوى هذه الحركات المجدّدة في السينما العالمية.

ومع هذا، وعلى الرغم من كل المشاكل والصعوبات، فإنّ الآمال كبيرة بالسينما العربية البديلة. هناك من قال إن جديد السينما في العالم سيخرج من بلدان العالم الثالث. ومما لا شكّ فيه هو أنّ السينما العربية البديلة ستلعب دورًا فاعلًا في هذا الجديد.

 

 

(*) وليد شميط، كاتب وناقد سينمائي لبناني، رحل قبل أيام، والمقال أعلاه نُشر في مجلة “الطريق” ضمن عدد خاص عن السينما البديلة، أصدره “نادي لكل الناس” في بيروت، يوزع لدى دار نلسن، ويتضمن مقالات نشرت في عدد في العام 1972، ومقالات جديدة لعدد من السينمائيين والنقاد، بينهم السينمائي السوري محمد ملص، الكاتب الراحل كريم مروة، الناقد ابراهيم العريس، السينمائي الفلسطيني قاسم حول، المخرج التونسي فريد بوغدير، المخرج العراقي قيس الزبيدي، المخرج الأردني عدنان مدانات، الباحثة خديجة حباشنة، الناقد عصام زكريا، المغربي حميد اتباتو، والجزائريان نبيلة زريق ونبيل حاجي.

تابعنا عبر