عماد الشدياق – اساس ميديا
بعيداً عن مجزرة النبطية، وتوسّع الغارات الإسرائيلية على لبنان، التي ستكون إسفيناً جديداً في جسد الاقتصاد اللبناني، يبدو أنّ لبنان بات أمام إعادة هيكلة المصارف، وتحديد كيفية توزيع الخسائر، ومستقبل أموال المودعين في لبنان.
ينشغل الإعلام في لبنان منذ أيام بدراسة “مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها” الذي سُرّب قبل طرحه على طاولة مجلس الوزراء، ويُفترض أن يدرسه الأخير في غضون الأيام المقبلة، بينما ترجّح التقديرات “إجهاضه بأرضه” قبل بلوغه البرلمان اللبناني. وهذا قبل أن تتحوّل الأنظار إلى جنوب لبنان، بعد مجزرة النبطية التي راح ضحيتها 9 شهداء بسبب توسع الغارات الإسرائيلية على لبنان.
لكنّ اللبنانيين الخائفين من الحرب، يتابعون أيضاً المشروع الذي له علاقة بودائعهم في المصارف. وهو مشروع متشعّب جداً، ويشوبه الكثير من الثغرات. إذ لم يستطع أن يحصد أيّ دعم من أيّ جهة معنيّة مباشرة بالأزمة:
– المصارف اللبنانية وجمعية المصارف رفضته رفضاً قاطعاً.
– المودعون اللبنانيون ينظّمون الحملات لإسقاطه.
– رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يحاول التنصّل منه.
– مصرف لبنان يوحي بأنّ لديه عدداً من الملاحظات حوله.
– فيما الكتل النيابية تبدي تحفّظاً قبل إبداء رأيها فيه وتنتظر وصوله إليها بالطرق الدستورية.
مصرف لبنان يعرض تقاسم ردّ الودائع مع المصارف، لكنّه يغفل أنّ التوظيفات الإلزامية التي يعرض دفع نصف الودائع منها هي أصلاً ليست له، بل للمصارف وللمودعين أنفسهم”
لا ودائع فوق 100 ألف $
عملياً، يمكن القول إنّ هذا المشروع هو عبارة عن “تتبيلة” لثلاثة قوانين يفترض أن تكون منفصلة، وهي: قانون الـ”كابيتال كونترول”، قانون “الانتظام المالي”، وقانون “هيكلة المصارف”، التي ارتأت الحكومة أن تدمجها معاً، بينما أبرز ما أتى به مشروع القانون يتلخّص بالتالي:
– إلزام المصارف بدفع الودائع بالليرة اللبنانية كاملة، ومن دون احتساب أيّ فرق بين سعر الصرف قبل الأزمة (1,500 ليرة) وسعر الصرف اليوم (89,500 ليرة).
– تصنيف الودائع بين “ودائع مؤهّلة” (قبل 17 تشرين الأول 2019) تُدفع لأصحابها ضمن مهلة زمنية تراوح بين 10 و15 سنة ضمن سقف لا يتعدّى 100 ألف دولار وتبدأ بـ300 دولار وتنتهي بـ800 دولار، وأخرى “ودائع غير مؤهّلة” (بعد 17 تشرين) تُدفع لأصحابها ضمن المهلة نفسها لكن ضمن سقف لا يتعدّى 36 ألف دولار وتبدأ بـ200 دولار وتنتهي بـ400 دولار.
– استرجاع قيمة الفوائد التي تفوق 1% المتراكمة في حساب العميل منذ عام 2015، وذلك للودائع فوق 100 ألف دولار، مع إمكانية تحوّلها، طوعياً، إلى الليرة اللبنانية بما يعادل 20% من سعر الصرف.
– تحويل “الودائع المؤهّلة” التي تفوق 500 ألف دولار إلى “أدوات رأسمالية”، وما يُعرف مصرفيّاً بـBail-in.
– تحويل الودائع إلى سندات ماليّة مصنّفة A وما فوق، ثمّ تحويلها إلى “صندوق استرداد الودائع” الذي يُنشأ من أجل هذا الغرض.
– الفرض على المودعين تبرير حصولهم على الودائع التي تفوق 500 ألف دولار، و300 ألف دولار للموظّفين العموميين.
المصارف
المصارف: الخطّة مرفوضة جملةً وتفصيلاً
تكشف مصادر مصرفية واسعة الاطّلاع على هذا الملفّ لـ”أساس” أنّ جمعية المصارف ترفض المشروع بشكل قاطع، وتعتبر أنّ دعوى ربط النزاع “لم تعد كافية”، بل يجب أن تتوسّع لتصيب مصرف لبنان بشكل مباشر باعتباره الجهة المدينة للمصارف (80 مليار دولار) أكثر من الدولة (10 مليارات دولار سندات يوروبوند).
هذه الأموال لم يعترف بها “المركزي” حتى اليوم، ولا يُعلن كيف السبيل لاستعادتها… بل أكثر من ذلك يرسم خطّة ليهرب مع الدولة من المسؤولية. في المقابل يطالب “المركزي” المصارف التي التزمت لثلاثة عقود بتعاميمه، بالدمج أو الإفلاس، تحت طائلة مصادرة أصولها وأموالها وأموال مالكيها، ثمّ ينفض يده ويبرّئ نفسه من أيّ مسؤولية وكأن لا علاقة له بكلّ هذه الأزمة.
تتّهم المصادر نائب الحاكم الثالث سليم شاهين ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ، برسم مشروع القانون المذكور، وتعتبر أنّ “المديون لا يحقّ له أن يهندس طريقة ردّه لدينه” لأنّه حتماً “سيفعل المستحيل لحماية نفسه”.
عليه، وقبل الحديث عن شكل الخطّة أو مشروع القانون، فإنّ السؤال يتمحور بحسب المصادر حول: من يجب أن يكتب مشروع القانون؟
رحلة البحث عن جهة محايدة
تعتبر المصادر أنّ المنطق يقول: إمّا أن تكتبه جهة محايدة كلّياً، وهذا قد يكون أمراً صعباً في ظلّ الوضع اللبناني المعقّد، أو يجتمع أصحاب الشأن المباشرون، أي الـ stakeholders، وهم في حالة لبنان: الحكومة، البرلمان، مصرف لبنان، جمعية المصارف، والمودعون (إذا أمكن).
مصادر مصرفية واسعة الاطّلاع لـ”أساس”: مجموع ما سيُدفع للمودعين 100 ألف دولار للودائع المؤهّلة و36 ألفاً لتلك غير المؤهّلة، بموجب المشروع، وهذه الأموال غير موجودة لدى المصارف
كان يمكن للجنة أو هيئة مؤلّفة من هذه الجهات الأربع أن تعمل معاً منذ البداية، أن تخرج بمشروع قانون يرضي أكبر قدر ممكن من الأطراف ويكون قابلاً للحياة، لكنّ هذا لم يحصل. فالمشروع الحالي لم يرضِ أحداً، بدليل أنّ المودعين رفضوه بشكل قاطع، والمصارف والجمعية رفضته بدورها بل تتوحّد اليوم بشكل غير مسبوق ضدّه، وأمّا الحكومة فتتنصّل من تبنّيه، ومصرف لبنان يقول إنّ لديه ملاحظات على بعض النقاط، في محاولة للإيحاء بأن لا علاقة له به.
المركزيّ يعطي ممّا لا يملك
أمّا في تفنيد مشروع القانون، وخصوصاً ما يخصّ الودائع، فتقول المصادر نفسها إنّ “مصرف لبنان يعرض تقاسم ردّ الودائع مع المصارف، لكنّه يغفل أنّ التوظيفات الإلزامية التي يعرض دفع نصف الودائع منها هي أصلاً ليست له، بل للمصارف وللمودعين أنفسهم”، وبالتالي فإنّ إقناع الناس بأنّ المركزي سيشارك في استرداد الودائع هو “وهم” لأنّه “يعِد بالدفع ممّا لا يملكه”.
تكشف المصادر أنّ مجموع ما سيُدفع للمودعين (100 ألف دولار للودائع المؤهّلة و36 ألفاً لتلك غير المؤهّلة)، بموجب المشروع، هو قرابة 10 مليارات دولار، وتؤكّد أنّ هذه الأموال غير موجودة لدى المصارف ولا حتى في فروعها بالخارج، وكلّ ما تملكه لا يتعدّى 3 أو 4 مليارات دولار. وبالتالي فإنّ هذا سيؤدّي إلى “تعثّر 90% من المصارف وإعلان إفلاسها”، أي أنّ مودعي هذه المصارف سيخسرون أموالهم، بينما الـ10% الباقية من المصارف القابلة للاستمرار لن تتمكّن من استقطاع رؤوس أموال جديدة لصعوبة إقناع المستثمرين، ما خلا المجانين، بالاستثمار في “سلّة مخرومة”. فالمستثمر في الوضع الطبيعي وبلا أزمات ومخاطر يفكّر ألف مرّة قبل استثمار أمواله… فكيف في لبنان وفي الظروف التي ترسمها الحكومة وبخطّتها التي تطالب المستثمرين الجدد (بحسب مشروع القانون) بدفع الأموال لمدّة 15 سنة؟ هذا يعني أنّ جزءاً كبيراً من الأرباح (إذا تحقّقت فعلاً) ستكون مخصّصة لتحمّل أعباء لا علاقة للمستثمر الجديد بها… من سيرضى بالاستثمار في المصارف في هذه الحالة؟
مشروع zero coupon bond “سخيف”
أمّا سندات الـzero coupon bond التي يطرحها المشروع، والمسحوبة بعد 30 سنة بقيمة حالية 15%، فهي بنظر المصادر “شأن سخيف”، لأنّ قيمة الشيك اليوم هي قرابة 15%، وبالتالي “يمكن للمودع أن يصرف الشيكات وأن يستخدم أموالها حيثما يريد، ولمَ الانتظار 30 سنة؟!”.
أضف إلى ذلك أنّ ثمنها الذي يبدأ بـ15% ويقولون إنّه سينتهي بـ100% بعد 3 عقود، هو “أمر غير ثابت”، لأنّ الأمر مرتبط بسوق الفوائد العالمية، إذ يمكن أن ينخفض سعرها عن 15% بعد 3 أو 4 أو ربّما 10 سنوات… من يدري؟
مجموع تلك السندات أيضاً تقدّره المصادر بنحو 6 مليارات دولار، ولهذا تسأل: “ما الفائدة من إخراج 6 مليارات دولار خارج لبنان؟ أفليس ضخّها في السوق اللبناني أجدى وأنفع للاقتصاد بدلاً من وهبها لجهات أجنبية خارج لبنان (الخزينة الأميركية)؟”، وتضيف: “ألا يُعتبر ذلك شبيهاً بتهريب الأموال إلى الخارج لكن بأساليب ملتوية ومبطّنة تحت مسمّى الإصلاح؟”.
استحالة إثبات “نظافة الأموال”
أمّا مسألة إثبات نظافة الأموال للودائع التي تفوق 500 ألف دولار، فتسأل المصادر: “ماذا ستفعل الحكومة بكلّ اللبنانيين الذين جمعوا ثرواتهم من الدول النامية مثل إفريقيا (شيعة إفريقيا) وغيرها؟ من أين سيأتون بإثباتات على صحّة وشرعية ودائعهم؟ ألا يدركون أنّ الاقتصاد اللبناني مبنيّ منذ عقود على هؤلاء وعلى هذه الودائع؟”… ثمّ تستنتج من خلال القول: “حتماً من وضع هذه الفقرة مجنون ولا يفقه شيئاً بتركيبة الاقتصاد في لبنان”.
يوحي كلّ ذلك بأنّ الخطة ستسقط كما سقطت سابقتها، والتسويف سيستمرّ إلى حين اقتناع السلطة بأن لا مفرّ من تحمّل مسؤوليّاتها في توزيع الخسائر… فهل تقتنع؟