منير الربيع – المدن
تستحق المواقف التي يطلقها رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، أو رئيس مجلس النواب نبيه برّي، أو وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، التوقف عندها. تتماهى مواقف المسؤولين الثلاثة مع مواقف حزب الله ومعياره الذي فرضه منذ بداية الحرب على قطاع غزة. من دافوس كان رئيس الحكومة واضحاً في أن حزب الله هو الذي بدأ هذه الحرب دفاعاً عن فلسطين. وقبلها كان ميقاتي قد قال في مجلس الوزراء إنه انطلاقاً من عروبتنا ومبادئنا لا يمكن البحث بأي ملف قبل وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
كل هذه المواقف تحيل السلطة الفعلية في لبنان إلى حزب الله، وسط غياب أي رؤية سياسية معارضة أو قادرة على تشكيل توازن مع الحزب، بغض النظر عن المواقف الاعتراضية التي ليس لها أي قدرة تأثيرية.
“إرضاء” الحزب
منذ سنوات والمجتمع الدولي يعلم أن الحزب هو صاحب القرار الأساسي والمفصلي في لبنان. فتسوية عام 2016 حصلت مع الحزب وبين إيران وأميركا. أما ترسيم الحدود البحرية فقد كان تفاوضاً أميركياً مع الحزب بشكل غير مباشر. حتى كل الزيارات الدولية التي شهدها لبنان مؤخراً، كانت تهدف إلى ايصال رسائل للحزب، بينما عملت الحكومة اللبنانية كساعي البريد. السؤال الأساسي الذي يطرح هو حول ما قاله ميقاتي، أو كل الربط اللبناني لمصائر لبنان بمصير غزة. حتماً للكلام أبعاد سياسية تنطوي على إرضاء ميقاتي للحزب، وربما تمهيداً لدور يتجدد بعد أي تسوية رئاسية، لا سيما أن مواقفه تلقى ارتياحاً لدى الحزب وبرّي، الذي يقول “يجب المحافظة عليه”. ولكن، ماذا عن المجتمع الدولي والأميركيين؟ قد يقرأ ميقاتي في التطورات أن طهران ستخرج رابحة مما يجري، وأن المجتمع الدولي يتعاطى بواقعية مع الحزب، وأن أميركا سلمت بربط لبنان بغزة، ولكن بشرط الخضوع لضوابط وقواعد لا تؤدي إلى توسيع الصراع. وهذا ما دفعه للاستزادة في ما يقول.
نسيان “النأي بالنفس”
لكن النتيجة أنها المرة الأولى التي تتخذ فيها الدولة اللبنانية بكاملها، وبشكل رسمي، موقفاً تتماهى فيه مع خيار “المقاومة”. وقد ربط مصير كل الاستحقاقات في لبنان بمصير الحرب على قطاع غزة. وهذه الأخيرة قد تستمر لسنوات. والربط بمصير غزة يمكن أن يقود إلى ربط لبنان بمصير الحوثيين أو بمصير العراق. وكأن ميقاتي يقول للحزب إن اللبنانيين منذ خمسين سنة، ومنذ اتفاق القاهرة يمانعون سيطرة طرف على خيار الدولة، ويصرون على عدم جره إلى صراعات المحاور، فيما الآن أصبح لبنان الرسمي مطواع يدي الحزب.
هذا لم يكن قد حصل في السابق. فلطالما كان في لبنان سياسة رسمية متبعة للحفاظ على الحدود، وأن سياسته تتوقف عند حدوده، مع عدم التورط رسمياً بحروب إقليمية. علماً ان ميقاتي كان صاحب نظرية النأي بالنفس مع اندلاع الثورة السورية.
خطورة كلامه المستجد وتداعياته، هو أنه تسليم كامل، وبالمعنى الرسمي، بأن لبنان أصبح خاضعاً لسيطرة حزب الله. فمثلاً، في حال اندلع إشكال بين الحزب والأميركيين في سوريا أو اليمن، سيكون لبنان ملزماً بالوقوف إلى جانب الحزب بمطالبة الأميركيين بوقف حربهم هناك، ليلتزم لبنان بوقف أي هجوم أو أي ربط لمصيره بمصير هذه الأحداث والتطورات.
التدمير الذاتي
كل ذلك يسعى إلى تكريس حزب الله كسلطة وحيدة من دون وجود أي تمايز. ويبدو هنا لبنان سباقاً ومتقدماً على كل الدول الأخرى. فلطالما كان هناك فصل لبناني بين حزب الله وسياسته وبين الدولة. وهذه القواعد تعاطى معها الغرب والإسرائيليون مراراً بأن الدولة شيء، وحزب الله شيء آخر. أما اليوم فإن الدولة والحزب أصبحا في حالة من التماهي والتطابق. وعلى المدى الأبعد، فإن ذلك يربط مصير لبنان بمصير حركة حماس. كما أن لبنان يتقدم على اليمن الذي فيه الحوثيين وفيه السلطة الشرعية، والأمر نفسه في العراق، هناك موقف للحكومة الذي دخلت في مشكلة مع إيران بعد القصف الإيراني لأربيل، وهناك موقف للحشد الشعبي أو الإطار التنسيقي.
هذا الفصل بين الجانبين قد سقط في لبنان. وهي إحدى أخطر الخطوات على طريق التدمير الذاتي.
عملياً، يمثل رئيس مجلس النواب نبيه برّي من موقعه ودوره، كرئيس فعلي للجمهورية. أما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي فهو يمارس دور رئيس وزراء ما قبل الطائف. أما السياسة العامة والاستراتيجية في لبنان، فهي التي باتت تضعها الدولة بجوانبها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بيد حزب الله. وهذا أصبح أمراً واقعاً بالنسبة إلى القوى الدولية التي تتعاطى مع لبنان على هذا الأساس، لا سيما أن حركة كل الموفدين تصب في خانة التفاوض غير المباشر مع الحزب وتناقل الرسائل بينها وبينه.