رنى سعرتي – نداء الوطن
منذ تولّيه حاكمية مصرف لبنان في الأوّل من آب الماضي ووسيم منصوري همّه الأوّل استقرار سعر الصرف من خلال وقف طباعة العملة، وقف منصة صيرفة، عدم تغطية عجز الدولة واجبارها على تمويل نفقاتها من خلال ايراداتها فقط، وعدم المسّ بما تبقى من احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية والعمل على زيادته. وهو نجح فعلاً في الحفاظ على استقرار سعر الصرف بغض النظر عن الانكماش الاقتصادي المتواصل وارتفاع التضخم وعدم حلّ أي من أزمات القطاع المصرفي المتعدّدة. ولكن هل تقتصر مهمّته فقط على سعر الصرف أم يمكنه التوسّع للبدء باصلاح البنك المركزي بكلّ تشوّهاته؟ ولماذا لم يبدأ منصوري ورشة اصلاح وحوكمة داخلية في البنك المركزي، فهل لانه يعتبر نفسه غير معنيّ بالاصلاح الجذري كونه حاكماً بالإنابة ولمرحلة انتقالية؟
قبل الذهاب بعيداً تجدر الاشارة ايضاً الى محاولات للحاكمية الجديدة ترمي الى تحرير سعر الصرف عبر اعتماد منصة بلومبيرغ، وهذا القرار متخذ لكن تطبيقه مؤجل بسبب الاحداث الخطيرة الجارية في غزة ولبنان. كما ان منصوري كشف في وقت سابق عن قرب انهاء العمل بسعر صرف الدولار المصرفي المحدد بـ15 ألف ليرة وذلك تزامناً مع اقرار موازنة 2024 التي يعول عليها لاعتماد وسعر صرف جديد يفترض انه 89500 ليرة للدولار. كما ان منصوري يحاول توسعة الاستفادة من التعميم 158 وايجاد صيغة جديدة للسحوبات بديلة عن التعميم 151. الى ذلك كشفت مصادر متابعة ان منصوري يتجه للاتفاق مع صندوق النقد الدولي لمساعدته في اعادة هيكلة مصرف لبنان ووضع حوكمة جديدة له وقد يستغرق الامر عدة اشهر لتظهر النتائج الاولى لهذا العمل. وذكر امس في بيان ان مصرف لبنان بدأ العمل مع الصندوق على مشروع safeguards assessement الذي يتضمن في احد محاوره اعادة النظر بالسياسة المحاسبية والتقارير والافصاحات المالية للتأكيد على افضل مبادئ الحوكمة والشفافية، كما قال. علماً ان تطبيق توصيات الصندوق يفترض ان بعضها سيعرض على السلطات السياسية اللبنانية لاتخاذ الموقف المناسب منها ما قد يدخل العملية برمتها في تجاذبات، كالتي حصلت عند بدء عمل لجنة شكلتها الحكومة لاقتراح تعديلات على قانون النقد والتسليف، فدخلت تلك اللجنة في متاهة كيفية الاخذ من صلاحيات حاكم البنك المركزي وما لذلك من محاذير طائفية احياناً. لأن المسألة بنظر البعض متعلقة بأداء الشخص وليس في القانون نفسه، اذ تكفي المقارنة بين اداء ادمون نعيم ورياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان لنعرف ان الشخص هو الاساس وليس القانون.
وكانت تقارير دولية ابرزها لصندوق النقد الدولي والشركة التي وضعت تقرير التدقيق الجنائي (ألفاريز اند مارسال) وشركات تدقيق عالمية اخرى (مثل «أوليفر وإيمان» و»كي بي أم جي» )، اشارت الى كيفية احتكار القرار في يد الحاكم احياناً كثيرة وتجاوز المجلس المركزي لمصرف لبنان ومفوض الحكومة. وكيف كان لذلك أبلغ الاثر في تعميق الازمة وايصالها الى تداعيات كارثية. وهناك ايضاً قضايا اخرى مثل علاقة مصرف لبنان بلجنة الرقابة على المصارف وهيئة الاسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الاموال والهيئة المصرفية العليا المعنية بمعاقبة البنوك المخالفة او تصحيح اعوجاج تصرفاتها. وتلك العلاقة غير السوية جعلت حاكم مصرف لبنان يتولى رئاستها جميعاً في احتكار غريب ومشبوه للسلطات.
في المقابل، اشارت المصادر الى ان نهج منصوري يختلف عن خلفه بالشفافية التي يحاول اتباعها في عمله وبالارقام الصادرة عن البنك المركزي وبتوفير المعلومات والبيانات المالية ومحاولة تحديثها وفقاً للمعايير الدولية.
ترك تصرفات المصارف على غاربها بانتظار الحاكم الجديد
أما في ما يتعلّق بكافة الاصلاحات المطلوبة على صعيد اعادة هيكلة المصارف او كبح مخالفاتها، والغاء تعاميم ظالمة للمودعين صادرة من قبل سلفه فاقمت الازمة… فتفيد المصادر ان منصوري أخذ قراراً بعدم القيام بأي خطوة جذرية في هذا الاتجاه خلال توليه الحاكمية بالانابة، لانه يعتبر انها مرحلة انتقالية مؤقتة، وهي مهمّة الحاكم الاصيل الذي سيخلفه والذي سيكون مضطراً لمواجهة المصارف في تصرّفها مع المودعين، وفي تغاضيها عن الوفاء بنسب الملاءة المالية المحددة وعدم تطبيقها لعدد من التعاميم الاصلاحية. حيث لا يريد منصوري الخوض بهذه المعركة ولا يريد فتح الملفات وأخذها على عاتقه بل يتركها للحاكم الاصيل المفترض ان يخلفه. وتخوّفت المصادر ان يتكرر السيناريو نفسه وان يسكر الجميع باستقرار سعر الصرف ليصحوا ويجدوا أنفسهم مجدداً غارقين في أزمة أعمق. وفيما يبدي منصوري نوعاً من التراخي في تعامله مع المصارف، اشارت المصادر الى ان المصارف تفرض ارادتها وتعيق تنفيذ قراراته وتبطل مفاعيلها في بعض الاحيان!
تنظيف ميزانية «المركزي» لا تقل أهمية عن تنظيف ميزانيات المصارف
أوضح خبير دولي في هذا السياق، انه عندما وضع صندوق النقد الدولي برنامج إنقاذ خاصاً بلبنان، لم يكن يأخذ بالاعتبار قطاعاً متدهوراً ومأزوماً واحداً، بل ان نظرته كانت شاملة، ماكرو اقتصادية، لان التشوّه الحاصل بالاقتصاد اللبناني سببه السياسات الكلية المتعارضة وغير المستدامة.
وبالتالي كانت اولوية الصندوق، وضع برنامج يهدف الى اصلاح الاقتصاد ووضعه على سكّة سليمة مستدامة لاستعادة النمو مع الوقت. كانت نقطة البداية بالنسبة للصندوق، وقف اتّباع السياسات الخاطئة، وهو الامر الذي لا يريد المعنيّون من سلطة تنفيذية، تشريعية وادارية وشعبوية، ان يفهموه او يتقبّلوه، بل يحصرون الاصلاح بجزء من البرنامج او الخطة الشاملة، ويتطلعون فقط الى اصلاح النظام المصرفي بشكل منفرد، بل الى البنوك التجارية فقط بمعزل حتّى عن اصلاح البنك المركزي الذي لا تقلّ عن اصلاح المصارف بل تفوقها بأشواط!
وشدد على ان اعتبار حلّ الازمة من خلال تأمين سيولة للنظام المصرفي، هو تفكير ساذج غير منطقي وغير عاقل ولا يمتّ الى المفاهيم المالية والاقتصادية بصلة! مشيراً الى ان حرص صندوق النقد الدولي على استعادة النمو يهدف الى تحقيق استدامة في الدين العام والى عودة نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي الى المعدلات الطبيعية والى ضمان قدرة الحكومة ضمن ميزانيتها على تأمين كلفة خدمة الدين العام، مؤكداً ان هذا الحرص او الشرط لا يمكن ان يتحقق سوى عبر «تنظيف» ميزانيات مصرف لبنان والبنوك التجارية من اجل تمكينها من مزاولة عملها مجدداً كوسيط مالي اساسي في تمويل القطاع الخاص. سائلاً: كيف يمكن لاقتصاد ان ينمو إن كان قطاعه المصرفي لا يملك أصولاً سائلة؟ كيف يمكن لاقتصاد حجمه 20 مليار دولار ان ينمو وخسائر مصرف لبنان تبلغ حوالى 80 مليار دولار اي 400% من الناتج المحلي الاجمالي؟
وقال: الجواب هو من خلال اصلاح شامل لكافة القطاعات يهدف الى نمو الاقتصاد إن من خلال صندوق النقد الدولي او من دونه، يبدأ بتنظيف ميزانيات المصارف عبر نقل الودائع الكبيرة بعد إجراء الاقتطاعات اللازمة والمحقة على فئة منها، الى صندوق لاعادة تكوين الودائع على قاعدة good banks and bad banks، واجراء عملية تدقيق وتقييم لوضع المصارف واعادة هيكلتها من اجل تخمين أصولها السائلة والتزاماتها، مما يتيح لها القيام بعملها مجدداً كوسيط مالي يستطيع تمويل اي اقراض للقطاع الخاص. لان تطابق اصولها والتزاماتها دفترياً فقط كما هو الحال اليوم، وعدم معرفة حجم الأصول التي قد تسترجعها من البنك المركزي او تاريخ استرجاعها، سيجعلها عاجزة عن استئناف عميلة اقراض القطاع الخاص، خصوصاً ان التعويل على جذب ودائع جديدة أمر ميؤوس منه في ظلّ انعدام الثقة بالقطاع المصرفي ولا يمكن استرجاعها قبل اعادة هيكلة المصارف وتنظيفها.
وفي موازاة «تنظيف» ميزانيات المصارف، شدد على ضرورة تنظيف ميزانية البنك المركزي ونقل أصول مصرف لبنان السامة (toxic assets ) الى صندوق اعادة تكوين الودائع لكي يستطيع القيام بدوره مجدداً في اعداد السياسات النقدية، لان وجود فجوة مالية هائلة في ميزانيته، يجعل القيام بذلك أمراً مستحيلاً!
وأكد الخبير الدولي انه عندما تتم عملية «التنظيف» والاصلاح واعادة الهيكلة، سيستعيد القطاع المصرفي دوره في تمويل الاقتصاد الذي سينمو مجدداً وستصبح القروض المتعثرة غير متعثرة وتتحسّن قيمة الاصول السامة. في المقابل سيؤدي نمو الاقتصاد واستعادته عافيته الى تحسّن الجباية والى ارتفاع ايرادات الدولة.
خاطر: «المركزي» أحد مسببي الأزمة وأبرز المتورطين فيها
من جهته، إعتبر الكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفسور مارون خاطر أن «اي خطة إصلاحية من الممكن أن يقوم بها مصرف لبنان يجب أن تنطلق من مبدأ أنه أحد مسببي الأزمة وأحد أبرز المتورطين فيها الى جانب الدولة والمصارف. بناءً على ما تَقَدم، لا بُدّ لأي عمليّة اعادة هيكلة تطال المصرف المركزي أو القطاع المصرفي أن تبدأ بحلّ سياسي يعيد العمل بمؤسسات الدولة ويؤمِّن بسط سلطة القانون وسيف العدالة على ان تتم بعدها عملية توزيع الخسائر في اطارها المالي وبُعدها القضائي الذي يستوجب تحديد المسؤوليات بهدف المحاسبة وليس بهدف إخفاء الأثر».
وشدد خاطر على أن «مصرف لبنان محاصر بين المصارف والدولة بعد أن كان صلة الوَصل بين الطَّرفين لعقود طويلة حيث استعمل أموال المودعين في المصارف لتمويل مغارة الفساد والهدر. وفي نظرة أشمل للوضع اللبناني يتّضح أن إعادة الهيكلة الفعلية والفعالة يجب أن تطال الدولة والمصرف المركزي والمصارف. بالتوازي من الموجب العمل على إنتاج حلّ منطقي لمُعضِلة توزيع الخسائر يستعيد على إثرها مصرف لبنان دوره وتعود المصارف لرفع مضاعف الائتمان عبر تسليف القطاع الخاص».
في إطار متصل، أشار خاطر الى أن إعادة هيكلة مصرف لبنان يجب أن تشكل العنوان الكبير لورشة تشريعية وإدارية تعمل على تعديل قانون النقد والتسليف والنظام الداخلي لمصرف لبنان بما يعزز إستقلاليّته ويُبعده عن التجاذبات السياسية. وهذا أيضاً غير متاح قبل تعيين حاكم أصيل لمصرف لبنان وبسبب تحول المجلس الى هيئة إنتخابية مهمتها إيصال رئيس للبلاد وبسبب التجاذبات السياسية التي تحكم عمل المجلس الحالي».
وختم خاطر قائلاً: «يستوجب كل ما ذكرنا اعلاه تغيير كامل الطبقة الحاكمة المتغلغلة في المؤسسات والمصارف على حدّ سواء. وبما أن كل ذلك مستحيل في الوقت الحالي، يتحول لبنان الى الاقتصاد النقدي والى اقتصاد «شركات تحويل الأموال» التي ستشكل عائقاً جديداً أمام عودة القطاع المصرفي إذ دخلت اليها السياسة من الباب العريض والآتي من الأيام سيُثبت ذلك بالوقائع».