عماد الشدياق – اساس ميديا
تدور شائعة في البلاد لا يُعرف مصدرها ولا مدى صحّتها، تفيد بأنّ الحكومة في صدد اتّخاذ قرارات للحدّ من حجم الاستيراد المنفلش، فتجعله مقيّداً بإجراءات وشروط إضافية، وذلك من أجل الحفاظ على الدولارات في الداخل اللبناني وحمايتها من التسرّب إلى الخارج.
لكنّ المدقّق في شكل الاقتصاد ولعبة الحكومة المنسّقة مع مصرف لبنان، يدرك سريعاً عدم صوابية تلك الشائعة، لأنّ “إبليس ما بيخرب بيته بيده”. فالحكومة اليوم تعتمد على كثافة الاستيراد من أجل المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة!
قد يسأل سائل: وما العلاقة بين الاستيراد وثبات سعر صرف الدولار؟
الجواب: هنا يكمن السرّ.
تدور شائعة في البلاد لا يُعرف مصدرها ولا مدى صحّتها، تفيد بأنّ الحكومة في صدد اتّخاذ قرارات للحدّ من حجم الاستيراد المنفلش، فتجعله مقيّداً بإجراءات وشروط إضافية، وذلك من أجل الحفاظ على الدولارات في الداخل اللبناني وحمايتها من التسرّب إلى الخارج
تكشف مصادر معنيّة لـ”أساس” أنّ الاستيراد أمسى “الدجاجة التي تبيض ذهباً” للحكومة، خصوصاً مع انحسار إيرادات الدولة المتأتّية من الإدارات مثل الدوائر العقارية و”النافعة” التي أضحت شبه معطّلة نتيجة الإضرابات والشلل الناتج عن التحقيقات بشبهات الفساد. مصدر الإيرادات الأهمّ بالنسبة لوزارة المالية اليوم هي الرسوم الجمركية، وذلك بعدما ألزمت وزارة المالية التجّار والمستوردين بدفع 75% منها بالليرات “الكاش” بعد رفع تسعيرتها من السعر الرسمي 15 ألفاً إلى سعر منصة “صيرفة” البالغ قرابة 85,500 ليرة لبنانية، (وربّما لاحقاً إلى سعر منصة “بلومبرغ”)، أي ضاعفتها بنحو 6 مرّات.
بدورها هذه الأموال هي نفسها التي يتدخّل بواسطتها مصرف لبنان في السوق من أجل شراء الدولارات لزوم الحكومة من أجل دفع رواتب القطاع العام، ومستلزمات القوى الأمنية والجيش، وشراء القمح والأدوية الخاصة بالأمراض المستعصية، وقريباً من أجل شراء الدولارات لمؤسسة كهرباء لبنان بحسبما تفيد المعلومات.
عليه، تقول المعادلة الجديدة إنّه كلّما ارتفع الاستهلاك زادت الليرات في يد الحكومة، وبالتالي زادت قدرة مصرف لبنان الرافض لطبع العملة أو استخدام التوظيفات الإلزامية، على التدخّل في السوق، ورفد خزينة الدولة بالعملة الخضراء.
التوازن المدروس… والممسوك بالأمن
تتطلّب هذه المعادلة أنّه كلّما زاد الطلب على الدولار من مصرف لبنان أو نما حجم الليرات في يده، ارتفع سعر الصرف نتيجة زيادة الطلب على الدولار، إلّا أنّ الإجراءات التي اتّخذها مصرف لبنان أخيراً تفيد بالعكس تماماً.
تقول المعادلة الجديدة إنّه كلّما ارتفع الاستهلاك زادت الليرات في يد الحكومة، وبالتالي زادت قدرة مصرف لبنان الرافض لطبع العملة أو استخدام التوظيفات الإلزامية، على التدخّل في السوق، ورفد خزينة الدولة بالعملة الخضراء
تفيد المعلومات أيضاً بأنّ مصرف لبنان يُجري تنسيقاً عميقاً ويومياً مع وزارة المالية، بحيث تفيد الوزارةُ “المركزي”، يوميّاً، بحجم الليرات التي استطاعت جمعها صناديق الوزارة المنتشرة في الإدارات الرسمية، فيتدخّل في اليوم التالي بقدرها فقط. فإن حصّلت الصناديق 500 مليار ليرة لبنانية مثلاً، يدرك مصرف لبنان أنّ حجم الكتلة النقدية بالليرات، البالغة اليوم قرابة 60 تريليون ليرة، قد انخفضت بمقدار 500 مليار ليرة، فلا يتدخّل في السوق بأكثر من هذا الرقم، بل يتدخّل بهدوء وبشكل مضبوط ومنظّم.
تجري هذه العملية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، التي تتدخّل بإيعاز من مصرف لبنان والجهات العاملة معه في حال ثبُت لديهم أنّ ثمّة من يسعى إلى المضاربة أو التلاعب بسعر السوق على مجموعات الصرّافين في “واتساب”، التي أصبحت بحسب مصادر صيرفية “الجهة الفعلية التي تحدّد سعر الصرف من خلال العرض والطلب المضبوطين جداً، بل من خلال الطلب الذي بات شبه محصور بحاجات مصرف لبنان فقط”.
إذاً من خلال رفع قيمة الرسوم الجمركية بموجب “صيرفة”، وفوقها الضريبة على القيمة المضافة (TVA)، استطاعت وزارة المالية إيجاد طلب كبير على الليرة، وهو ما دفع بالتجّار والمستوردين الذين أصبحت جميع “غلّاتهم” بالدولار الأميركي نتيجة “دولرة” الاقتصاد بشكل شبه كامل، إلى تحويل الدولارات إلى ليرات لبنانية لدى الصرّافين من أجل تسديد تلك الضرائب والرسوم بالليرة اللبنانية “الكاش”… وهي نفسها تلك الدولارات التي يعاود مصرف لبنان جمعها عبر الصرّافين.
بهذه الطريقة استطاعت السلطة النقدية أن توازن بين الطلب على الدولار الثابت في السوق، وبين الطلب على الليرة اللبنانية من خلال جعلهما متكافئين متقاربين. بمعنى آخر، فإنّ تراجع المواطنين عن دفع الضرائب والرسوم سيجعل الطلب على الدولار أكبر من ذاك الطلب على الليرة، وسيؤدّي حتماً إلى ارتفاع سعر صرف الدولار. وهذا يعني بدوره أنّ الاستهلاك بشكل عامّ هو المحرّك الأساسي للاستيراد، الذي بدوره أيضاً هو المسبّب الرئيسي لإدخال الليرات إلى خزينة الدولة اليوم من أجل تحويلها “بهدوء ودراسة” إلى دولارات.
أليس لبنان بلد العجائب؟