كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
نقلّب بين العناوين ونقرأ: “ها نحن قبل الإنهيار الكبير”. “ها قد دخلنا مرحلة الإنهيار السريع”. “تواصل الإحتجاجات في ظل انهيار الليرة المستمرّ”. “باريس تندد بتقاعس السياسيين اللبنانيين عن تقديم المساعدة لبلدهم الذي يواجه مخاطر الإنهيار”. “الإنتظار في لبنان ما قبل الإنهيار”. “لبنان على حافة الإنهيار الكبير”. “لبنان من الإنهيار الى الإنفجار”… وماذا بعد؟ ماذا بعد كلّ هذه التحذيرات؟ هل ما زلنا نقف عند حافة الإنهيار أم سقطنا فيه سقوطاً مريعاً كما تلاطم الأجساد في نار جهنم الحمراء؟
يتلوى اللبنانيون ويسقطون في “الغيبوبة” كمن بلع خمس حبات “فاليوم” دفعة واحدة. فالحال عدم وأكثر. محطات البنزين تعبئ الآن بعشرين ألفاً كحدّ أقصى وللغد كلام آخر. المحال أقفلت أبوابها. والسيارات مرمية في عرض الطريق أمام السوبرماركات بعدما لم تعد مواقفها تتسع. الصيدليات باتت رفوفاً بلا أدوية. البنادول يباع بالحبة. لا سكر. لا أرز. لا حليب. وأسعار ما تبقى من غالونات زيت، نار. يا لهول ما يُصيب اللبنانيين. يا لهول الأيام الآتية؟
نبيه بري حذّر: “دخلنا في النفق ولبنان أشبه بسفينة تغرق شيئاً فشيئاً”. ميشال عون حذّر ومن زمان: “لبنان يتجّه الى جهنم” وسكت. حسان دياب حذّر: “لبنان بلغ حافة الإنفجار”. سعد الحريري حذّر: “لبنان يواجه خطر الإنهيار بشكلٍ سريعٍ جداً”. وزير الطاقة حذّر: “لا نستطيع سداد ثمن الوقود لتوليد الكهرباء”. وليد جنبلاط وسمير جعجع وحسن نصرالله وجبران باسيل وسليمان فرنجيه وسامي الجميل حذروا. فماذا على المواطنين أن يفعلوا؟ يحرقون الدواليب؟ فعلوا. يتظاهرون ويهتفون ويطالبون؟ فعلوا. ينامون بلا عشاء؟ فعلوا. يثورون عبر السوشيل ميديا؟ فعلوا. اللبنانيون يعرفون تماماً أن الإحتراس حسن في ذاته غير أن التمادي فيه، بلا حلول، مجرد سراب. فهل نحن في سراب؟ هل نحن في كابوس طويل مديد لا استفاقة منه؟ وماذا عن سيناريوات السقوط؟
يتحدث السياسيون، كل السياسيين، عن المأزق ويسكتون. فالحلّ الذي يبديه أحدهم لا يرضي الآخر والعكس صحيح. وما يجمع عليه الكلّ: أن أياماً سوداء قاتمة حالكة آتية؟
الباحث في علم الإجتماع الدكتور ملحم شاوول يقترح تحديد كلمة الإنهيار في البداية ويقول “هناك أنواع مختلفة من الإنهيار. ونحن لم نصل بعد الى مرتبة النزوح والسكن في مخيمات. ولا حرب بعد. ولم يعش اللبنانيون ما عاشه أهالي الأشرفية وزحلة من حصار. ولم نقف بعد في قوافل أمام الأفران للحصول على رغيف خبز”.
لم نصل بعد الى هذا النوع من الإنهيار لكننا في انهيار من نوع آخر فكيف يحدده الأستاذ في علم الإجتماع؟ يجيب شاوول “الإنهيار الحالي له مظهران يؤديان الى إحباط شديد كونهما يتجلّيان في حالة تعتبر شبه طبيعية، فلا كوارث (ما عدا كورونا). وحين يحلّ الإنهيار في شكلٍ مفاجئ على وضع سببه لم يتأتّ من تزعزع أمني ويهدد حياة كانت تبدو ممكنة يؤدي الى إحباط أكبر. هذا الإحباط هو ما يشعر به اللبنانيون. فهم لم ينتظروا ما هم فيه، ولم يخالوا لحظة أن ما أصابهم سيُصيبهم يوماً. اللبنانيون في ذهول وهم يرون أنفسهم أمام جدار سياسي مقفل. ومن يُفترض بهم ان يكونوا حكاماً هم عاجزون لا يتكلمون مع بعضهم البعض. هذا الإنسداد السياسي الكامل ترافق مع إنهيار ماليٍّ كامل. وهذا كله أدى الى ولادة “الإحباط المدقع” الكامل. والتجارب تشي بترافق ما حلّ بلبنان بسلوكيات شتى بينها:
أولاً، ظهور ردود فعل في الشارع تترافق مع انتقادات لاذعة.
ثانياً، التواجد في الشارع في شكلٍ أكثر عنفاً والقيام بأفعالٍ عنيفة وربما اقتحام مخازن.
ثالثاً، حصول سرقات وزيادة الضغط العنفي في الشارع والممارسات العنفية داخل العائلات والجرائم والإغتيالات والعنف الأهلي. وهذا ما قد يؤدي، إذا زاد تصعيداً الى عنف سياسي وربما إطلاق نار وحصول تفجيرات. وتشير بعض التجارب الى أن بلوغ هذا القدر من الإنهيار قد يترافق أيضاً مع عنف على الذات، كحرق الجسد أو الإنتحار.
دولتنا “القبيحة” هذا ما قد تؤدي به أعمالك في حقّ شعب لبنان العظيم.
ماذا بعد؟
أيّ سيناريوات إنهيار إقتصادي علينا أن نتوقع بعد وبعد؟
الخبير الإقتصادي الدكتور لويس حبيقة ينظر الى الأمام، ويعود وينظر الى الوراء، ثم الى الأمام مجدداً ويقرأ: “لا أحد يمكن أن يتوقّع إنطلاقاً من كل ما سبق وحدث من إنهيار ماذا قد يحدث بعد. وفي أي اتجاه ستنحو الأزمة التي تُثقل البلاد والعباد” ويعطي مثلاً “نحن في بحرٍ هائج، على متن باخرة في عمق البحر، والهواء يأخذها الى اليمين والى اليسار. والباخرة بلا قبطان، أو لنقل فيها ثلاثة أو أربعة قباطنة، وكل واحد يشدّ في اتجاه. وهذا ما يُنذر الجميع بأننا ذاهبون الى الأسوأ. فالأفق مسدود ولا ثقة للشعب بأي مسؤول. وكل الأسباب التي نسمعها من هنا ومن هناك عن عدم تشكيل الحكومة ما عادت تقنع أحداً. ويستطرد: حتى الفرنسيون يئسوا منا والبارحة، من يومين، قال إيمانويل ماكرون إن فرنسا تهتم بما تؤول إليه الحال في سوريا. فهناك على ما بدا حتى الى الفرنسيين أن الحلّ قد يكون أسهل”.
الدولار الواحد وصل البارحة الى 15 ألف ليرة لبنانية ( وأكثر). في سوريا، وفي نفس الوقت كان الدولار أيضاً يحلق ووصل الى 4650 ليرة سورية. نراقب هنا ثم نعود ونراقب هناك. فنستعيد المعزوفة التي حاولوا زرعها في عقولنا: شعبان في بلد واحد! نتابع الخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم فنسمعه يقول: “لبنان قد أصبح خارج الحسابات الإقليمية والدولية وخصوصاً بعد تدخل فرنسا الفاشل وأن تعويم اقتصاد لبنان وعملته مع ميناء مدمر خارج الخدمة وحركة مطار بيد حزب إيران وحركة إعمار متوقفة… كلها تؤكد فشل محاولة حاكم مصرف لبنان في تعويم العملة اللبنانية… ويستطرد الكريم بالقول: أعتقد ان سياسة التعويم في لبنان تتماشى مع سياسة التعويم التي تسلكها حكومة الأسد وتتزامن معها وأكثر من سيعاني من السياستين هم مواطنو الدولتين. والسؤال الذي يطرحه الخبير الاقتصادي السوري هنا: لماذا يتبع لبنان سياسات الأسد الاقتصادية؟ هل يحدث هذا ليبقى لبنان منصة الأسد مع العالم الخارجي؟ ويخلص: ربما جيش النظام السوري خرج من لبنان لكنه ترك بدلاً منه ألف جيش وزعماء يتبعونه ما زالوا على كراسيهم”.
نعود الى الدكتور ملحم شاوول لسؤاله عن تفاصيل أكثر عن السيناريو اللبناني المرتقب؟ يجيب: “أنا جدّ متخوف من تصاعد العنف. هذا في ظلّ بحث كل طرف من الأطراف عن حيّز له. والسبيل الواحد الذي تراه الأطراف بتوفير مساحتها الآمنة. والظروف التي نمر بها، في ظلّ استقالة الدولة والقوى الأمنية والقضاء، قد تفسح المجال امام أحداث ذات طابع أمني. ويستطرد: أنا عشتُ كل الحرب اللبنانية وبتّ موقناً بأنه كلما اشتدّت الدولة المركزية ضعفت الميليشيات والعكس طبعاً صحيح”.
السؤال الأصعب الذي يطرحه شاوول على نفسه: الى اين نحن ذاهبون؟ ويقول: علينا التفكير جدياً بأمور تساهم ببعض الحلحلة قبل السقوط المريع. مبادرة البطريرك بشارة الراعي واحدة من الحلول. إنها الهيكل العظمي الذي يحتاج الى لحم لتُصبح كياناً. فليشتغلوا عليها. فليشكلوا لجنة تذهب الى الأمم المتحدة وليضعوا جدول أعمال. هذه أمور من شأنها خلق نوع من بصيص أمل”.
هل يرى لويس حبيقة من جهته بارقة ما في مكان ما؟
يؤكد الخبير الاقتصادي من جديد “أن لا أفق أبيض لكن المفاجأة ممكنة. فلا شيء يمنع بعدما وصلت البلاد الى ما وصلت إليه بأن يطلّ الرئيس المكلف تشكيل الحكومة ويقول: شكلنا حكومة لبنان. ويستطرد: لا يمكنني أبداً إلغاء عنصر المفاجأة من حساباتي. فأنا لست مقتنعاً على الإطلاق ان الأمور خرجت من بين أيدي المسؤولين اللبنانيين الذين إذا أرادوا التنازل عن سياسة “النهش السياسي” فسيتمكنون من تشكيل حكومة تعطي بصيص امل ولو بسيطاً”.
لبنان اليوم “بالويل”، في الإنهيار، ولا أحد قادراً على الإنكار. لكن هل تشبه أزمة اليوم أزمة لبنان في أوائل ثمانينات القرن الماضي؟ يجيب حبيقة “يومها كان الوضع الإقتصادي أفضل. كانت البلاد مفتوحة والبضاعة تدخل عبر الحدود. ومع ذلك إنهارت الليرة. أما اليوم فالحدود مقفلة والأفق أسود. زمان كنا نأمل أن تنتهي الحرب للخروج من الإنهيار أما اليوم فلم يعد حتى الإنتظار مجدياً. ووحدها المفاجأة قد تخرق كل الجمود”.
هل ننتظر مفاجأة إيجابية من “سلطة” لم تفعل سوى صعق المواطنين بقرارات فيها ظلم واستهتار؟
ملحم شاوول يتحدث من جهته عن “ذكاء الأنظمة” فيقول: “في سوريا قرر النظام من أجل الحدّ من المواجهات التي يتعرض لها إخراج الأخوان المسلمين من السجون ليتواجهوا مع المعارضة فتفرط من الداخل وليقول أنه يحارب التطرف والإرهاب. هكذا تفكر الأنظمة ذات العقل الديكتاتوري والسلطوي. إنها تخرج بأفكار جهنمية. فماذا يمنع بهذه الحالة أن تفكر سلطتنا اللبنانية بإعفاء بعض أصناف المجرمين من روميه ثم تقول لنا: إنني أحارب الإرهاب؟ في حين تكون تتواطأ مع الإرهابيين. نحن نعيش في أنظمة كل شيء مباح لها من أجل مصالحها.
غير التظاهرات ووجع الناس وفقدان المواد الغذائية وكل القرف الذي يعيشه اللبناني… بالنسبة لبكرا شو؟
الثابت أن لا حلول عجائبية. اللهم أن تكون المفاجآت لا تزال مجدية حين تقرر الدولة “أن تفاجئنا”!