بقلم ليلى دندشي
مع حلول شهر رمضان المبارك من كل عام يتذكر الطرابلسيون تلك الأجواء الرمضانية وما كان يرافقها من تقاليد وأجواء ترفل بها المدينة بحاراتها الشعبية وأسواقها ومساجدها وتعمها معالم الزينة وتزداد فيها حركة البيع والشراء وخاصة قبيل مدفع الإفطار حيث تخلو الشوارع من المارة والباعة لمدة ساعة قد تنقص أو تزيد لتزداد من ثم حركة الناس من كل الأعمار والمناطق التي يتقاطر سكانها إلى المدينة للمشاركة في هذه الأجواء الرمضانية.
وفي الوقت الذي تزداد العجقة في الأسواق كلما إقترب موعد عيد الفطر السعيد، فإن المقاهي ومنذ اليوم الأول من رمضان تبدأ بإستقبال الساهرين “المولعين” بنفس أركيلة” أو للتسلية بأوراق (الشدّة) كما يسميها الطرابلسيون أو إجراء مباراة بين بعض الرواد في لعبة “طاولة الزهر”.
ولكن يبقى موعد “الحكواتي” هو الشغل الشاغل للطرابلسيين وأصدقائهم الذين ينتظرون من عام إلى عام للإستماع إلى قصصه العربية والتفاعل مع تطوراتها فيهللون للبطل ويوجهون الشتائم إلى “الخائن”.
كل ذلك وأنواع الحلويات العربية وخاصة “البرازق” و “حلاوة الجبن” والسحلب شتاء أو شراب الجلاب صيفا. ووسط مشاعر الفرح والتصفيق يتم إستقبال الحكواتي الذي يعتلي المنبر ويجلس على كرسيه أو “يتربّع” وبعد التحية والسلام يبدأ بمواصلة حكايته من حيث توقف في الليلة السابقة.
سيرة عنترة بن شداد
وتعتبر هذه السيرة أقدم الأعمال القصصية في تراثنا الأدبي، بطلها عنترة، وهو فارس جاهلي وشاعر له قصائد معلقة وكان مشهورا في قبيلته بني عبس حيث تقع أحداث قصته في الجزيرة العربية، وهي قصة عبد تحرر ليخوض صراعه من أجل المساواة بينه وبين الأحرار في الحقوق والواجبات القبلية، فهو اسود في مجتمع أبيض ويتصف بتأهله لمركز الصدارة في القبيلة بإعتباره فارس شجاع وشاعر من فحول شعراء الجاهلية. ولكنه يتعرّض لمنافسة من بقية فرسان القبيلة على خلفية مشاعر الحب ل “ليلى” بنت عم عنترة من إمرأة بيضاء، لتشتد المنافسة والغيرة بين عنترة وبقية شبان القبيلة الذين كانوا يخافون من مواجهته نظرا لتمرّسه في الفروسية فتبدأ العداوات والصراعات ولكنها سرعان ما تتوقف عند أعتاب “ليلى” التي تكنّ الحب لبطلها عنترة.
سيرة علي الزيبق
على الرغم من أن مؤلف السيرة يحدد لها عصر أحمد بن طولون في منتصف القرن الثالث الهجري فإن من الواضح أنها كُتبت بعد سيرة الظاهر بيبرس بفترة كبيرة وأن سيرة علي الزيبق تتعلق بحياة القاهرة وأجوائها في العصر المملوكي وتدور أحداثها في حواريها وأزقتها وتنقل لنا صورا من حياة الناس فيها وظروف المجتمع السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
ويكفي أن يكون بطل السيرة واحدا من الشطّار أو اللصوص، كما يكفي ان تكون مغامراتها تدور بين مجموعة من الذي إشتهروا بالحيل والخداع، وتقوم أعمالهم على تسلق القصور وسرقة النفائس وتحدي السلطات القائمة التي لا تجد صعوبة من الإعتراف بوجودهم فتوليهم المناصب الرئيسية وتحدد لهم الرواتب السنوية والمخصصات من بيت المال وتسمح لهم بأن يسيروا في مواكب الملوك والسلاطين أنفسهم.
ومن الشخصيات المهمة في سيرة علي الزيبق فاطمة بنت القاضي نور الدين إم علي الزيبق التي تبحث دائما عن إبنها علي لتخلصه من الأخطار التي يقع فيها.
سيرة سيف بن زي يزن
على الرغم من أن أحداث هذه السيرة تدور في العصر الجاهلي وتقع أحداثها في شبه الجزيرة العربية والحبشة ووادي النيل، فإن جميع فصولها وتسلسلها الروائي تقع فعلا في العصر المملوكي، ذلك أن أحداث السيرة حرب حقيقية بين أهل الحبشة والعرب، يدخل فيها التعصب الديني، فأهل الحبشة يدافعون عن عبادتهم، بينما يدافع العرب عن عبادة الله، لتصل العداوة التقليدية بين الفريقين ذروتها إبّان الحروب الصليبية في أوائل القرن الثالث عشر حيث لجأ عدد من الأقباط إلى ملك الحبشة على أثر موقف السلطان الكامل الأيوبي من الصليبيين المحاصرين لدمياط، فتدور بينه وبين ملك الحبشة مكاتبات تبدو فيها روح المصالحة، إلآ أن العداوة تعود من جديد فيرسل ملك الحبشة خطابا إلى السلطان المملوكي يعلن فيه “أن نيل مصر الذي به قوام أمرها وصلاح أحوال ساكنيها مجراه من بلادي، وأنا أسُدّه”.
فضحك السلطان من كلام ملك الحبشة وإستثقل عقم تفكيرهم ، وفي عهد الملك سيف أرعد أصبح الصدام بين مصر والحبشة سافرا وبذلك يكون العصر المملوكي شهد تجدد العداوة التقليدية بين الحبشة والعرب على الرغم من أن كاتب سيرة سيف بن زي يزن قد أجرى احداث قصته في زمان يسبق ظهور الأديان الثلاثة.
سيرة الظاهر بيبرس
تُعتبر سيرة الظاهر بيبرس من الناحية القصصية والزمنية إمتدادا لسيرة “ذات الهمّة”، فبينما تنتهي أحداث السيرة الأخيرة في عصر الخليفة الواثق وظهور الترك كعامل مؤثر في احداث الدولة العباسية خاصة والعالم الإسلامي عامة، نرى سيرة الظاهر بيبرس تبدا بذكر الخليفة المعتصم والواثق والمقتدر ثم تنتقل سريعا إلى العصر العباسي ومنه إلى بداية عهد الدولة الأيوبية في مصر والشام، وهكذا نرى أن كتّاب السير في العصر الإسلامي قد ربطوا مراحل الدولة الإسلامية، فبدأوا بقصة عنترة في الجاهلية فذات الهمة في العصرين الأموي والعباسي فالظاهر بيبرس التي تبدأ في العصر العباسي الثاني لتصل إلى الحروب الصليبية وخاصة عصر الصالح نجم الدين أيوب، وهي في الواقع عرض روائي للفترة التي عاشتها الأمة العربية مع الحروب الصليبية في أواخر العصر الأيوبي وأوائل العصر المملوكي.
ولا تعالج السيرة مشكلة محلية فحسب بل هي أيضا تتصدى لمشكلة إنسانية وهي موقف الإنسان من القدر. وتسير القصة في سرد الأحداث وتنتهي ببيان أن قضاء الله نافذ وأن علمه سابق، أما الإنسان فهو حر يتحرك كما يشاء، من دون أن يستطيع أن يغيّر من هذه الإرادة المسبقة شيئا وحتى لو علم الإنسان ما كُتب له فهذا العلم لا يستطيع أن يغير المطلوب ولا يمحو ما سبق تسطيره في لوح القدر.
يُذكر ان اهم المقاهي التي كانت تُروى فيه هذه السير خلال شهر رمضان المبارك في طرابلس: مقهى فهيم في ساحة التل وما يزال قائما إلى اليوم، مقهى الرمانة داخل الاسواق القديمة ولم يعد له وجود، مقهى العويني في سوق العطارين، والمقاهي التي كانت منتشرة على ضفتي نهر ابو علي ومقهى موسى في الحدادين وغيرها، وإلى المقاهي المستحدثة في “سوق حراج”.
وكانت هذه السهرات تستمر طوال ساعات الليل حتى قبيل اذان الإمساك ليغادر من ثم رواد هذه المقاهي إلى منازلهم لتناول وجبة السحور.
وعلى الرغم من ان رواد هذه المقاهي كانوا من الذكور فإنها بدأت تستقبل ومنذ سنوات الرواد من الجنسين، أما بالنسبة للحكواتي فقد إشتهر بصورة خاصة الحاج محمود الكراكيزي الذي إشتهر في تحريك الدُمى أو ما كان يُعرف آنذاك بخيال الظل وبحكايات “كريكوز وعواظ” وهما شخصيتان خياليتان تجري بينهما أحداث ووقائع ساخرة وغالبا ما كان الكراكيزي يستلهم أحداث الحوار بين هاتين الشخصيتين من وقائع شاهدها أو سمع عنها وجرت بين أشخاص معروفين في هذه الحارة أو تلك.