كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
لم يعد اللبناني مشغولاًً فقط بتأمين توازن هش بين مدخوله ومصروفه بل صار واجباً عليه أن يؤمن التوازن نفسه بين ما يدخل جسمه وما يخرج منه بعد أن صارت كلفة الأخير توازي كلفة ما سبقه… واذا كان بالإمكان التحكم بالأول فالأمور الأخرى خارج السيطرة بالنسبة الى الثاني وأسعار منتجات النظافة الورقية نار كاوية. المحارم الورقية، ورق التواليت، حفاضات الأطفال والعجزة والفوط الصحية النسائية حلقت أسعارها الى فوق وأبقت اللبناني “غارقاً” تحت، يفتش عما يمسح به آلامه ويداوي به أيامه الصعبة…
في السوبرماركات يقف الزبائن مذهولين أمام ركن المنتجات الورقية يتمتمون غير مصدقين الأسعار التي يرونها أمامهم، يتأكدون منها ثم من الكمية وحتى من نظاراتهم مراراً وتكراراً علّ هناك خطأ ما يبرر ما يلوح أمامهم من أرقام. لكن العتب ليس على النظر هذه المرة، بل على واقع الأسعار التي ارتفعت متخطية حدود المعقول بحيث صار كيس الحفاضات الواحد المستورد يوازي سعره ربع الحد الأدنى للأجور. ارتفاع طاول كل المنتجات الورقية المعروفة التي اعتاد اللبنانيون استخدامها لعقود وصارت اسماؤها مرادفة لأصنافها بحيث بات شراؤها عبئاً حقيقياً على غالبية الناس يفوق قدراتهم أحياناً. منتجات، بعضها محلي الصنع من ركائز الصناعة في لبنان وكثيرها مستورد تتحكم باستيراده شركات عالمية كبرى. وعلى جذع هذه الأصناف المعروفة نمت كالفطر عشرات الماركات المستحدثة المجهولة الهوية والأصل انتشرت على الطرقات ورفوف المحلات وبعض السوبرماركات لتكون المنافس غير المتكافئ للاسماء المعروفة بالسعر والنوعية.
احتار اللبنانيون كيف يتعاطون مع ارتفاع أسعار المنتجات الورقية خصوصاً وأن لا بدائل عنها ترضيهم وتناسب احتياجاتهم. هل يعودون الى ماضي الأيام كما ينصح به البعض: الى محارم القماش المطرزة والمناشف الصحية القابلة للغسل وحتى الى ورق الصحف… واقع مبك حقاً… هل يديرون ظهورهم لأصناف تآلفوا معها طويلاً وباتت جزءاً من حياتهم ويرضون بما يُقدم لهم من نوعيات مصنعة في دول مجاورة او في دكاكين تصنيع محلية لا تخضع لأي شروط مراقبة؟
أردنا ان نتقصى عن سبب ارتفاع أسعار المنتجات الورقية الصحية فتبينت لنا مجموعة من الحقائق غفل عنها ربما الجمهور في غمرة اتخاذه بارتفاع الأسعار. فقد تبين ان أسعار المواد الأولية للورقيات في العالم ازدادت بنسبة 20% وكذلك اسعار البلاستيك فيما ارتفع سعر صرف الدولار في لبنان سبعة اضعاف تقريباً وهذا وحده كاف لتبرير القفزة الصاروخية للاسعار. لكن تجاه هذا الواقع لا بد من التفريق بين الصناعة المحلية والمستوردة. فالبضائع المستوردة التي تحمل بعض الأسماء المعروفة لا شك لحقت سعر الدولار “على الدعسة” حتى وإن عمد بعض الشركات الى خفض اسعارها قليلاً لمجاراة السوق وإجراء بعض العروضات لتشجيع المستهلكين وازدادت أسعارها حوالى 80%.
أما الاصناف المحلية الأكثر شيوعاً في الأسواق فبعض الحسابات السريعة تبين أن اسعارها لم تتغير كثيراً عن السابق. وإذا أخذنا اي منتج وعدنا الى شهر أيلول من العام 2019 أي قبل الانهيارات الكبرى نجد ان سعره كان مثلاً 9000 ليرة اي ما يعادل 6$ أما اليوم فالسعر للمستهلك بقي 6$ إنما مضروباً بـ 4000 ليرة في حين أن سعر الدولار تجاوز عتبة 10000 بمعنى ان ارتفاع سعر المنتج لم يواكب الارتفاع الحقيقي لسعر الدولار.
نمط اقتصادي فاشل
هذه الحقائق الحسابية قد لا يأبه لها المستهلكون ولا سيما بعدما صار معظمهم عاجزاً عن اقتناء هذه الأصناف الحيوية نتيجة انهيار قيمة رواتبه وقدرته الشرائية. لذا تحدثنا الى رئيس جمعية حماية المستهلك في لبنان زهير برو لنسأله كيف يمكن تبرير ارتفاع اسعار هذه المنتجات؟
فكانت إجابته انه لا يمكن إعطاء تبرير آني لارتفاع الأسعار فهو ليس وليد ساعته او الصدفة بل ناجم عن أزمة عميقة مرتبطة بمسار معين ونمط اقتصادي لم نعمل على تطويره أوصلنا الى القعر. هي السياسات العامة التي أوصلت الى اقتصاد مشوه استنزف الودائع ومدخرات الناس واعتمد الاقتصاد الريعي لا المنتج فاسقط البلد بكامله. منذ العام 1993 يقول برّو حذّرت من الرأسمالية المتوحشة التي ستجرنا الى جهنم ومنذ العام 1998 عرفنا كجمعية حماية المستهلك ان البلد دخل في دوامة خطرة.
لكن برّو يعود ليشرّح الوضع الحالي قائلاً: من الطبيعي ان تلحق الصناعات المحلية أسعار الدولار لا سيما وأن معظم موادها الأولية مستوردة بالعملة الصعبة وجزء بسيط فقط من كلفة انتاجها مدعوم مثل الطاقة او اليد العاملة. أما السلع المستوردة فقد ارتفعت أسعارها ما بين 85 و 90% وقد تراجع الاستيراد حوالى 40 الى 50% ولا سيما من الدول الغنية التي تعوّد لبنان الاستيراد منها ليحلّ محله استيراد من نوع آخر لصناعات رخيصة من مصر وتركيا وسوريا وهي صناعات ذات نوعية متدنية نسبياً لكنها تلبي قدرة اللبنانيين الشرائية المتدنية.
ولكن السلع المحلية الصنع التي لم تلحق بالدولار حتى اليوم ولم تواكب ارتفاعه بدأت منذ شهرين تقترب من سعر الدولار وازدادت اسعارها 70 و80%حتى تتمكن من الاستمرار وهذا مؤشر خطير يدل على أن الحالة تتجه نحو الأسوأ مع بقاء الرواتب على حالها.
نسأل رئيس جمعية حماية المستهلك عن الدعم الذي يطاول المواد الورقية فيقول: لم يعد ممكناً الكلام عن الدعم إذ ان جزءاً متواضعاً منه فقط وصل الى الناس فيما الجزء الأكبر نُهب من قبل المستوردين والتجار الوسطاء وضاع بين التهريب والتخزين وتم اقتناصه قبل أن يصل الى المستهلك. 8 مليارات ليرة هي مبلغ الدعم المعلن عنه صرفت في خلال عام والأرجح أن يكون المبلغ أكبر بكثير ويصل الى 15 ملياراً لم يستفد منها اللبناني إلا جزئياً بالكهرباء والبنزين فيما سمح للتجار في شراكتهم مع الزعماء ان يغتنوا على حساب الدولة والمواطنين. الحل يجب ان يكون عن طريق بطاقات للعائلات الفقيرة والمتوسطة فيما تبقى السلع متوافرة في الاسواق بسعر السوق.
هو حل موقت لا شك يلبي احتياجات الفقراء في هذه الأوقات الخانقة لكن هل يُخرج لبنان من أزمته المالية والاقتصادية؟ هل يؤمن للناس قدرة شرائية يواجهون بها ارتفاع الأسعار؟ الحل في نظر البعض ليس بتعديل الأسعار بل بتعديل العادات الاستهلاكية للشعب اللبناني لتصحيح المسار الفاشل الذي اعتمده طويلاً والبحث عن بدائل ربما تكون بالعودة الى قديمه حتى بالنسبة للمنتجات الورقية. اما مواكبة العصر فلها اثمانها وتتطلب أن نكون منتجين لا مستهلكين فقط.
الفكرة ذاتها يركز عليها رئيس شركة سانيتا السيد الياس أسطا الذي يؤكّد لـ”نداء الوطن” أن البدائل موجودة وتعتمد على منتجات الصناعة الوطنية التي توازي أفضل الماركات العالمية جودة ونوعية وتستطيع ان تنافس في الأسواق المختلفة.
توازن بين السوق المحلي والتصدير
نسأل السيد أسطا عن شركة سانيتا بالذات بعد أن أجرينا بحثنا حول الأسعار وتبين لنا أن منتجاتها لا تزال نسبياً على السعر نفسه بالدولار منذ 2019 على الرغم مما قد يبدو للعامة أنه ارتفاع في اسعارمنتجاتها فيجيبنا ان شركة سانيتا كانت تعتمد سعر 4000 ليرة للدولار لتسعير منتجاتها وأخيراً اضطرت لزيادة قدرها 10% لمواكبة سعر صرف تخطى 10000. ولكن هذا لا يعني ان الشركة تتعمد البيع بخسارة بل ثمة عاملان يمليان عليها هذه السياسة، الأول هو 1200 عائلة لبنانية يعمل ابناؤها في الشركة ولا يمكن إلا الاستمرار في العمل والانتاج من أجلها، والثاني هو ان الشركة تعمد الى خلق توازن بين السوق المحلي وأسواق التصدير بحيث يسد الربح الذي تجنيه من تصدير منتجاتها الخسارة التي تواجهها في السوق المحلي لتبقى الى جانب المجتمع اللبناني وابنائه.
لكن على الرغم من ذلك لا يمكن ان ننفي ان اسعار بعض منتجات الشركة صارت أعلى من قدرة اللبنانيين، لذلك يقول اسطا: حاولنا ان نقدم مستويات مختلفة ونوعيات تجارية بأسماء أخرى تلبي احتياجات كل الفئات مع الحفاظ على منتجاتنا الأساسية بالنوعية ذاتها. أما لكل من يقول ان المنتجات التي تباع على الطرقات هي البديل والمنافس بأسعارها فإننا نقول قارنوا بين النوعية لا بين الأسعار فقط. واللبناني الذي اعتاد نوعية معينة يصعب ارضاؤه ببدائل لا يثق بها. لكن كفانا جلداً للذات وتحطيماً لصورة صناعتنا الوطنية وبالنسبة إلى شركتنا نحن فخورون بما نقوم به وبهؤلاء الشباب الذين استطعنا مساعدتهم على البقاء في وطنهم وكما صمدنا سابقاً في كل الأزمات سنصمد أيضاً الآن ونتخطى الأزمة.
هنا كان لا بد لنا ان نقوم بجولة تفقد للاسعار على تلك المنتجات الشعبية التي لا يكاد يخلو شارع من بسطة لها. الأسماء غريبة بالنسبة إلينا وتتعدد في البسطة الواحدة. أسعارها أرخص بلا شك فالكيس الذي يضم 18 لفة ورق تواليت مثلاً بـ19000 ليرة وهو ثلث سعر الاصناف المعروفة ولكن حين تتفحص الوزن جيداً وحجم كل لفة تلاحظ انه اقل بكثير من وزن الكيس المعروف. لكن السعر يجتذب الزبائن الذين باتوا يبحثون عن الأرخص لا لتقديرهم لنوعيته بل لعدم توافر أكثر من ذلك في جيوبهم. وبالتدقيق في العناوين وأرقام الهواتف للشركات المصنعة نلاحظ ان بعضها لبناني وكثيرها سوري وتركي…
نسأل إحدى السيدات التي توقفت مذهولة امام ستاند الفوط الصحية إذا كان بإمكانها استبدال الماركة المعروفة المعروضة على الرف بماركة وطنية او بأخرى لا تعرف عنها شيئاً فتضحك مطولاً وتقول: كانت جدتي تخبرنا عن دعوة تقولها للتشفي من جارة تكرهها “تجيكي المجية ويكون في قلة شراطيط…” وكنا نضحك على الدعوة المؤذية الى أن وصلنا إليها… صار البلد كله ينزف من دون ان يجد ما يضمد نزيفه…