شعار ناشطون

المدماة: أبعد من غضب وهوية سنية مجروحة

28/02/21 10:40 am

<span dir="ltr">28/02/21 10:40 am</span>

أعاد خبر استدعاء رامي فنج للتحقيق الاسبوع الماضي تذكيرنا بطرابلس وهمومها بعد ان أخذنا منها اغتيال لقمان سليم. ما تهمة الطبيب الطرابلسي؟ توزيع مساعدات وحصص غذائية في ساحة النور!!

في الدولة الفاشلة، صار تقديم المساعدات الإنسانية تهمة.

رامي فنج ملتزم بقضايا الناس، يحمل همومهم الناس قبل انفجار الثورة. انه من النوع الذي  نطلق عليه صفة  “النقاء الثوري”. وهذه تهمته.

كان رضوان السيد قد نجح في التعبير عن غضب الطرابلسيين والسنّة، خصوصاً في إشارته الى التعامل غير المتسق مع المحتجين من مختلف فئاتهم فيها. لكنه لم يكن محقاً حين رأى ان السنة وحدهم المستهدفون. ان الثورة ومن يحمل لواءها أيضاً هم المستهدفين. لأن القمع والقسوة يطالان جميع الفئات المنتمية الى الثورة، ليس فقط لانتماءاتهم الطائفية بل لمواقفهم السياسية. فلقد شهدنا نفس القسوة في بيروت وخلدة والنبطية وصور؛ وقمع تفاقم بعد انفجار المرفأ في 4 آب، ألم تقتلع عيون الثوار؟

بالمقابل نجد التراخي وغض النظر يطال الفئات المدافعة عن محور السلطة وتلك التي تعتدي على الثوار علناً وتخطف وتكسر وتشعل النيران في بيروت أمام الكاميرات.

هذا لا يمنع ان هناك خصوصية تطال طرابلس التي يراد لها ان تكون المدينة السنية المارقة. اعتدنا طوال الحرب الأهلية على أن تكون بؤرة متفجرة وان تخضع لعنف دوري راح ضحيته مئات القتلى. وذلك بسبب دفاعها عن الفلسطينيين واستخدامها من ياسر عرفات، رحمه الله. فاستحقت عقاب النظام السوري. وكانت هذه البيئة قد أفرزت متشددين اسلاميين سمحت للأطراف الاخرى استسهال وسم جميع الطرابلسيين بالداعشية.

فما هي خصوصية طرابلس؟ ولماذا توظف ككبش فداء ؟

يتطلب فهم الاحداث اتخاذ مسافة منها وتتبعها لفترة طويلة ومتوسطة من الزمن. ما يسمح بفهم أكبر لما حدث.

ومن هذا المنطلق يمكن فهم السياق الذي أوصل طرابلس إلى أن تكون ساحة وصندوق بريد عند كل مناسبة. بداية، لا بد من ان نأخذ بعين الاعتبار موقع هذه المدينة الجغرافي وتاريخها الممتد منذ ان كانت درة الشرق العربي منذ ألف عام، على ما يصفها امين معلوف في كتابه عن الحروب الصليبية: “مزدهرة تتمتع بالرخاء والأمن ما يجعلها محسودة من جيرانها، فيها “دار العلم” مع 100 ألف مجلد …”. إلى أن أصبحت لاحقاً مرفقاً مدينياً أساسياً من الإمبراطورية العثمانية.

أدّى انهيار الخلافة العثمانية إلى شعورها باليتم، شعور تقاسمته مع العالم العربي. برز إثرها تياران أساسيان، أحدهما الإسلام السياسي الأصولي، على غرار ما حصل في مصر مع الإخوان المسلمين الذين تأسسوا عام 1928 أي بعد 4 أعوام من سقوط الخلافة. وكانت طرابلس أحد مراكز هذا الإسلام السياسي في المنطقة. إضافة إلى التيار القومي العربي، الباحث عن إحياء وحدة عربية كبديل عن الخلافة.

هذا ما يفسر رفض الطرابلسيين الالتحاق بلبنان الكبير في العام 1920، فالحدود المستجدة ستقضي على حلم الوحدة.

أيضاً مانع الجنوبيون الشيعة الالتحاق بلبنان الكبير كي لا ينقطعوا عن محيطهم الفلسطيني والعربي. لكن الاحتلال الاسرائيلي حقق القطيعة التي ترتبت عليها آثار ضخمة لا نزال نعاني نتائجها حتى الآن.

على هذه الخلفية سَهُل استغلال طرابلس كساحة في صراع نفوذ بين مختلف القوى، من فلسطينية وإسلام سياسي، ضد النظام السوري؛ الذي بدوره وظّف العلويين، والاحزاب اليسارية والقومية ضدهم. ما تسبب بجولات العنف الثلاث والثلاثون ومئات القتلى فيما عرف بمجزرة باب التبانة ووسمت المدينة بانها قندهار.

بالطبع من غير المفهوم أن يستمر اضطهاد طرابلس على نفس الخلفية بعد خروج الجيش السوري. كأنها تعاقب لشدة تمسكها بلبنان، فهي أول من رسم في ثورة  17 اكتوبر العلم اللبناني على طول مبنى كبير في ساحتها. وهي منذ ذلك الحين تبرهن يوميا أنها لا تتحرك على أساس طائفي أو سني وزنها ليست قندهار بل عروس الثورة، التي تتعاطف معها مختلف المناطق اللبنانية التي تشاركها نفس المواجع.

إن الإهمال والفقر والضيق الاقتصادي الذي تعرضت له طرابلس، ولا تزال، يجعلها تتوجع قبل غيرها من المناطق، ويسهّل شراء بعض الشبان العاطلين؛ فتغلغل مختلف الأجهزة التابعة لجميع الأطراف، سواء السورية التي تستعيد انفاسها مع استعادة حركة التهريب الناشطة للسلع المدعومة عبر الحدود الشمالية، أو من قبل أجهزة الدولة اللبنانية التي اعتادت استغلال طرابلس لإرسال الرسائل؛ أيضا من قبل سرايا المقاومة وأجهزة أخرى مدعومة من أحزاب ودول وجهات خارجية.

لم يعد ممكناً القبول بإشعال طرابلس عند كل محطة أو مناسبة وترك متسببي العنف والاعتداءات طلقاء بعد كل جولة “فتعجز الأجهزة”، الموصوفة بقدراتها، عن توقيفهم؟ أو توقف الثوار بدل العملاء. وليس مقبولاً أن يكون رؤساء الوزارة السنة، وبعضهم من طرابلس، عاجزين عن إنعاش المدينة اقتصادياً، من مواقعهم الرسمية: بتشغيل مرفئها وإعادة مصفاتها وإحياء معرضها والاعتناء بصناعاتها وأسواقها وحماماتها وآثارها التي تشكل كنزا سياحياً ثميناً على مستوى الشرق الأوسط ككل؟

وذريعة منعهم  “من القيام بواجباتهم” ممن هم إمتداد لسياسة النظام السوري تجاهها، مرفوضة. فما الذي أعاقهم؟ ولماذا؟ ربما تسكتهم المصالح الشخصية وتقاسم الحصص في مجالات اخرى!  والدليل، الثروات الهائلة المكدسة!!

من هنا نتفهم الغضب الشعبي الطرابلسي الذي يجده البعض سنياً كون الأغلبية كذلك. كما تفهمنا الغضب الشيعي في السبعينات والثمانيات؛ والتي احسنت ايران استغلاله.

دخلنا مع الشاشات بيوت الفقر المدقع في طرابلس، والآن يحجرونهم فيها بلا مساعدات من أي نوع فكيف لا يثورون؟

ربما يشعر السنة أنهم مستهدفون كسنة، وهنا ليس المهم التدقيق في صحة هذا الشعور، يكفي أنه موجود. يكتب جورج دوبي حول الأيديولوجيا، أننا كي نفهم “تنظيم إدارة المجتمعات الإنسانية واستشفاف القوى التي تجعلها تتطور، من المهم أن نعطي اهتماما مماثلا للظواهر الذهنية، التي يعد تدخلها محدِّدا بقدر الظواهر الاقتصادية والديموغرافية. ذلك أن البشر لا يضبطون سلوكهم انطلاقا من شرطهم الفعلي، بل من الصورة التي يكونوها لانفسهم، والتي لا تعكس ابدا صورة امينة عنه”.

وهنا تلعب صورة الآخر عنا ومواقفه منا في تدعيم هذه الصورة. ونعلم في لعبة الهويات اننا نتمسك بالهوية المهددة. فنحن كأفراد وجماعات لدينا هويات مركبة تعمل بتناسق كما اعضاء جسم الانسان. اعتدت لتفسير وجع الهوية بحادثة حصلت مع ابني في عامه الثاني عندما عقصه دبور في اصبعه ، وكان كلما التقى بأحد يبرز له اصبعه المصاب كي يقاسمه وجعه. تحول كل انتباهه الى هذا الاصبع. وجميعكم يعرف معنى ألم الضرس، يتحول جسمنا كله الى ضرس مؤلم. وهذا حال هويتنا المجروحة، سواء أكانت اللون أو الدين أو اللغة أو الطبقة، نصبح هذه الهوية المجروحة.

والجرح الطرابلسي عميق لأنهم يشعرون، نخباً وجماهير، بالإهانة لتحول مدينتهم العريقة إلى الهوان الحالي؛ واعتبارهم بيئة حاضنة للداعشية، مستهفدون ومستضعفون بسبب ذلك. الأمر الذي يتواكب في نفس الوقت مع شعور الشيعة عموماً بالاستقواء. فحالياً يتم تناقل تسجيل صوتي، يبدو أن صاحبه شيعي ويتكلم باسم الشيعة، يزعم فيه ان الشيعة أصحاب هذه الأرض منذ مئات السنين. سخر البعض معلقا أننا نفهم منه ان الفينيقيين شيعة أيضاً!!

ليس المهم أن تكون هذه الصورة الموهومة حقيقية. المهم أنه الانطباع السائد الآن عند جمهور الشيعية السياسية، بدليل الاعتداءات التي تحصل في جبيل ومحيطها على أملاك المسيحيين والرغبة بإعادة مسح الأراضي لإعادة توزيع الملكية؛ غافلين عن أن منطقهم هذا يعطي المبرر لإدعاءات اسرائيل، التي يزعمون محاربتها حتى الآن، بحقها بأرض فلسطين.

كل هذا يساهم بتأجيج الصراعات لأنهم يراهنون على تحويل ثورة 17 اكتوبر عن أهدافها التي جمعت اللبنانيين تحت سقف العلم اللبناني ورفضت هيمنة الزعماء الطائفيين وتطالب بتطبيق الدستور والطائف والقرارات الدولية، والحضن العربي والدولي.

الملاحظة الثانية في هذا السياق، وهذا ليس دفاعاً عن أغنياء طرابلس طبعاً لكن عن دور ومسؤولية الدولة ولتصويب النقاش. يتعلق بما لفتني من تكرار متلازمة: أين اثرياء طرابلس؟ ولماذا يتركونها بوضعها هذا؟

خطورة اعتماد هذا المنطق، أنه يجعل طرابلس كأنها إمارة صغيرة على حدود لبنان، أو ملكية خاصة لزعمائها كما زمن الإقطاع الإأوروبي. ألا يوحي لكم ذلك بتقسيم غير معلن للمناطق!! ويبرر المطالبة بالأمن الذاتي؟

هذا يستتبع سؤال:ألا يوجد أثرياء في لبنان المفلس والمنهار؟ أليسوا من أغنى أغنياء العالم، بحيث أن دولة مثل سويسرا تجد نفسها مضطرة، حفاظا على سمعتها وسمعة مصارفها، أن تقدم دعوى قضائية على المصرف المركزي وحاكمه، لوجود شبهة تطال تحويلات مالية ضخمة مشبوهة؟

أين هم لم لا يسعفون لبنان؟ ولم لا يتبرع واحدهم بجزء من أمواله “اللبنانية” لمنع الانهيار التام؟ او لماذا لا يوقفون على الأقل تحويلاتهم وتهريب السلع المدعومة الذي لم يتوقف، لإسعافه؟

ما يجري في طرابلس، تحذير لكل من يعترض على الأرض. حتى “مجموعة الأزمات” تعنون: “أحداث طرابلس: صورة لما ينتظر لبنان في الأشهر المقبلة”!!

هذا في المناطق التي لا يهيمن فيها حزب الله، لأنه يسعى في مناطقه إلى القمع للتهدئة بأي ثمن.

لذا طرحت الفعاليات الطرابلسية لأول مرة بوضوح: إقالة محافظ الشمال واستقالة جميع نواب طرابلس لعدم تحملهم مسؤولياتهم.

تابعنا عبر